+ A
A -
الوطن

أوضح فضيلة الشيخ د. محمد حسن المريخي خلال خطبة الجمعة التي ألقاها بجامع الشيوخ أن خير ما تزين به العبد المسلم، واتصف به خلق التسامح والعفو، وهو امرؤٌ متسامح ومسامح وسمح، في كل أحواله وشؤونه.

يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (رحم الله امرئ سمحاً إذا باع، سمحاً إذا اشترى، سمحا إذا اقتضى) رواه البخاري. والله تعالى يدعو إلى التسامح والعفو والتنازل قدر المستطاع، يقول سبحانه (فمن عفى وأصلح فأجره على الله إنه لا يحب الظالمين) وقال (وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم والله غفور رحيم) حتى قال (ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور)، السماحة تسهيل الأمور وتخفيفها، وتليينها، وتيسيرها، وهي خلقٌ كبير، وعظيم لا يتصف به إلا الكبار والعظماء الذين تفضّل الله عليهم بالإيمان وبارك لهم في الإسلام، والسماحة والمسامحة خلق الكرام، وأولي العزم (ولا يلقّاها إلا ذو حظٍّ عظيم)

وأضاف الخطيب: تدل السماحة والمسامحة على خلق كريم، وإيمان عميق، ونقاءٍ في القلب، وسلامة في الصدر، ورفعة في المقام والقدر، ولذلك نجد من اتصف بخلق المسامحة كباراً وعظماءً في ديننا، من رسول الله إلى صحابته وتابعيهم وإلى ما شاء الله ممن تفضل عليهم ربّهم، فلا تجد مسامحاً ولا عفواً أو متنازلاً، لا تجده إلا كبير القدر، رفيع المنزلة.

وقال د. المريخي إن أكرم من هؤلاء كلهم، ربهم جل وعلا، الذي يسامح عباده ويعفو عنهم ويتجاوز عن تقصيرهم وهو الغني عنهم، حتى سمّى نفسه العفو والغفور والغفار وهي أسماء صفاتٍ جليلة وكبيرة، وقد أمر بالعفو والمسامحة فقال تعالى: (خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين) وعفو الله كبير لا يخفى على المؤمنين الموحدين فإنه يعفو عن عبده ولو بلغت ذنوبه عنان السماء ويتجاوز عنه ويسامحه إذا رجع إليه تائباً مهما فعل وعمل فإن الله يتوب عليه إذا رجع وأناب (إن الله كان عفوا غفورا) ولولا عفوه سبحانه ما ترك على الأرض دابة تدب عليها (ولو يؤاخذ الله الناس بظلمهم ما ترك عليها من دابة ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمى)

وأردف: التسامح والمسامحة كان خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد عفا وسامح أهل الطائف الذين رفضوا حمايته وطردوه وأغروا به سفهاءهم وصبيانهم الذين أهانوه وضربوه حتى أدموا قدميه، ونزل مَلك الجبال بأمر من الله ليأتمر بأمره صلى الله عليه وسلم ليطبق عليهم الجبلين فقال له: لعل الله أن يخرج من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئاً. رواه البخاري وقال: اللهم اهدِ قومي فإنهم لا يعلمون.

وعفا صلى الله عليه وسلم وسامح أهل مكّة الذين لم يتركوا شاردة ولا واردة في أذيته وإهانته، فجمعهم الله له يوم الفتح وكانوا رهن إشارة منه صلى الله عليه وسلم للصحابة فتقطع الأعناق وتسيل الدماء ولكن سماحة النبوّة وأخلاق الكبار وعلو همة المرسلين والنّظرة المستقبلية لهذا الدين، وقبل هذا كل هذا وعد الله تعالى له بالنصر والتمكين وإظهاره عليهم كل ذلك كان سبباً في عفوه عنهم، فقال لهم: ماذا تظنّون أني فاعل بكم؟ قالوا: أخٌ كريم، وابن أخٍ كريم، فقال لهم: اذهبوا فأنتم الطلقاء، وسامحهم وعفا عنهم.

وسامح الأعرابي الذي بال في مسجده، والشاب الذي جاء يطلب الإذن بالزّنا والأعرابي الذي شّده من تلابيبه وعفا عمن هجاه وأساء إليه ومن اعتذر إليه، مما دعا كثيراً من هؤلاء إلى الدخول في الإسلام بإذن الله تعالى، وشيء من هذا كثير من عفوه ومسامحته لا يتسع المقام لحصره.

تقول عائشة رضي الله عنها: لم يكن رسول الله فاحشاً ولا متفحشا ولا صخابا في الأسواق ولا يجزي بالسيئة مثلها ولكن يعفو ويصفح.. رواه أحمد والترمذي.

وذكر الخطيب بأن المسامحة خلق لا يقوى عليه إلا الكبار فقد تجاوز يوسف ابن يعقوب عليهما السلام عن إخوانه الذين ظلموه وألقوه في غيابة الجب، وتسببوا في غيابه حتى حزن أبوه يعقوب عليه السلام واصابه العمى من الحزن الشديد «وتولى عنهم وقال يا أسفى على يوسف وابيضت عيناه من الحزن فهو كظيم» حتى استسلموا ليوسف عليه السلام، قالوا: «تالله لقد آثرك الله علينا وإن كنا لخاطئين، قال لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين».

ولفت الخطيب إلى أن المسامح الذي يعفو عن أخطاء الناس عمن أساؤوا إليه، والذي يعرف بين الناس بسماحته وعفوه، امرؤ يؤلف ويحب ويجالس، يحبه الناس ويدعون له، ويحبون مجالسته ومشاورته، وله مكانة كبيرة في القلوب، وهو رجل مبارك في المجتمع ومصدر البركة على المجتمع، وهو سعيد في ذات نفسه، موفق مسدد، بارك الله في وقته وعمره وأهله ومتعه الله بعمره المبارك.

والمسامحة سعادة وراحة للبال وطيب نفس وصحة وعافية بدنية وحسية، أهل المسامحة والعفو أهل سعادة وراحة ضمير، هم السعداء الحقيقيون في دنياهم، في أهلهم وذرياتهم وشؤونهم هم المباركون في كل أحوالهم، فكم أسعدهم الله بأعمالهم هذه وخاصة المسامحة، كم سلمهم الله من الأمراض المستعصية الخطيرة كأمراض القلب وضغط الدم والقلق والتوتر والشيخوخة المبكرة وخاصة أهل الصفح الجميل، والصفح الجميل هو الذي لا أذية فيه ولا بقاء لشيء من الحزن في القلب ويلحق ذلك بالإحسان لمن اساء وظلم ومقابلته بكل حب ورضا، وهذا ما طلب الله تعالى من رسوله صلى الله عليه وسلم حين قال له «فاصفح الصفح الجميل»، أمره بترك المؤاخذة على ذنوبهم وإساءتهم له، وغض الطرف تماما عن مرتكبي الإساءات وترك معاتبتهم.

ونوه بأن مجتمعاتنا كم تحتاج إلى خلق التسامح من أجل بنائها وترميمها، كم فعلت الخلافات والشقاقات والتصدعات في علاقات الناس، كم يئن المجتمع من ثقل الخلافات والقطيعة بين الأرحام، والأقربين والأصدقاء والناس أجمعين، كم من الأحوال والشؤون متوقف وواقف منذ أمد بعيد، وزمن طويل، بسبب الخلافات وبسبب غياب خلق التسامح والعفو، حتى والله أثر ذلك في دين الناس، وتدينهم وصلاتهم، ففي دنيا الناس أقوام لا يعرفون المسامحة ولا العفو، فهو مقاطع للوالدين والأرحام والخلان، يا ويل من أخطأ في حقه أو لمس طرف ثوبه، لا يسامح ولا يعفو، ولو جاءه أهل الأرض كلهم جميعا، والبعض جاءه من يدعو إلى المصالحة والمسامحة وإصلاح ذات بينه وصلته واستدراك ما بقي من العمر والبر والإحسان، فيأبى ويرفض ويبقى على جهله ومتابعة شيطانه.

أعداء المسامحة، أصحاب الأفق الضيق، أهل المصالح عبيد المنافع «فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله».

وأكد الخطيب أن التسامح أقوى من الانتقام وأشد من الخصام، وواقع التسامح أشد وأثقل على نفس المخالف من الانتقام، فهو أنبل من التعصب، فالتسامح تناسي السيئات والانتقام تناسي الحسنات، التسامح لا يسلب الحقوق والانتقام لا يمنح الحقوق، والتسامح منبع الخير والتسامح والقبول العادل والقدرة على العيش مع القريب والبعيد والعدو، والصديق والمخالف والموافق، كما أنه اعتراف الجميل بالمساواة والعدل والاحترام بين الناس، واعتراف بالتعدد والتنوع وحق الاختلاف بالرأي.

copy short url   نسخ
01/10/2022
90