+ A
A -
قد لا يبدو شيئًا مرهقًا أكثر من «تكتب» فأن تكتب يعني أنك بصدد التقوقع داخل غرفتك تستمع لموسيقاك ثم تكتب، كأنه لزام أن تعيش حالة من أجل ذلك أن تبحث فيها عن الجوهر والمعنى والهدف في آن. فالكتابة طاقة كامنة بداخلنا، نعبّر بها عما يجول بعقولنا وبخواطرنا وبوجداننا.
لماذا نكتب؟ سؤال طالما تعرضت إليه كثيرًا، وطالما أدهشني وأخذني على حين غرة وأنا بصدد كتابة مقال لأتساءل بالفعل ما الذي يدفعنا معشر الكتّاب للكتابة؟ أهو الهروب من لجّة الحياة ورتابة الأيام؟ هذا السؤال كانت له نكهته وأنا أقرأ مقالة بعنوان ‹في غابة المفارقات› لكاتبها جان ماري لوكليزو، الحائز على جائزة نوبل للأدب سنة 2008،وقد طرح فيها نفس التساؤلات التي تراودني: لماذا نكتب؟
يرى لوكليزو أن لكل شخص اجابته على هذا السؤال، فهناك المؤهلات والوسط والظروف.
ويفهم لوكليزو أن الظروف تبعث فينا الرغبة في الكتابة والرغبة في تدوين الاحلام الا أنه لم يعد للكاتب منذ أمد صلف الاعتقاد أنه سيغير العالم وأنه سيلد عبر كتاباته نموذج حياة أفضل، فالكاتب برأي لوكليزو يريد بكل بساطة أن يكون شاهدا.. شاهدا رغم أنه قد يكون في غالب الأحيان ليس الا مجرد ناظر يكحّل ناظريه. لكنه بالمقابل قد يكون الكاتب شاهدا ممتازا عندما يكون شاهدا رغم أنفه عندما يدفع بنفسه ثمن شهادته وتكمن المفارقة أن ما يشهد عليه ليس ما شاهده ولا حتى ما ابتدعه. تكمن المرارة واليأس أحيانا في أنه ليس حاضرا وقت المرافعة.
يعتري الكاتب أحيانا الاحساس بالعجز عن التعبير عما يجول في خاطره، وتأتي لحظات تبتلعه دوامة الإحباطات سيما اذا اقتنع ان كتابته لن تغير شيئا في قضية أراد إثارتها.
لا شك أن الرغبة الحقيقية في الكتابة تكون عندما تنتصر أمام سطوة الذات، التي تذوب في النهاية تحت وطأة فعل الكتابه ذاته. فالرغبة في الكتابة تسمو فوق كل الرغبات، لأنها قفز إلى المجهول، وتجاوز للمحسوب، وخلط للأوراق، وفي كثير من الأحيان مزيج من العقل والجنون.. نعم من العقل والجنون!
برأي لوكليزو فإن الفعل هو أعز ما يطمح اليه الكاتب، وهو أن يكون فاعلا بدل أن يكون شاهدا. الكتابة والتخيل والحلم كي تتدخل كلماته وابداعاته وأحلامه في الواقع وتغير الأذهان والقلوب وتفتح عالما أفضل. لكن في تلك اللحظة ذاتها هناك صوت يهمس في اذنيك بأن ذلك غير ممكن وأن الكلمات ليست سوى كلمات تحملها رياح المجتمع وأن الأحلام ليست سوى خرافات.فبأي حق يرغب في أن يكون الأفضل؟ هل يتمثل دور الكاتب في البحث عن المخارج؟ ويتساءل لوكليزو أيضا: كيف يمكن للكاتب أن يفعل بينما هو لا يحذق سوى التذكّر؟
من هنا أبني على كلام لوكليزو لأقول اننا نمتع أنفسنا أولاً حين نكتب، نهديها أول حروفنا، نناقشها ونشتبك معها حول المسموح به وغير المسموح، نستأذنها في اطلاق جنوننا، وقد نخادعها، نتحايل عليها أحياناً ونستغفلها أحايين أخرى!
هناك من يتسلح بقلمه ليهرب من هموم الدنيا ونكدها، أو لأنه يريد أن يسمع لحظات السعادة التي ننتشي بها، فبين الفرح والترح خيط رفيع تقتات عليه الكلمات وتحاوره الحروف.
فالكتابة عالمٌ يشكله كل منا كيفما يرى، وكيفما يشاء، ويترك للقارئ وحده الحكم على ما يقرأ. ولا ننسى أن الكاتب يرتطم على مفارقة جديدة: فهو لم يكن يرغب في الكتابة إلا لأولئك الذين يقاسون ويتألمون لكي يدرك هؤلاء أنه موجود أي الكاتب والضمير. وعلى الجانب الآخر نختزن الكثير من ذكريات الماضي والقصص التي تأكل ذاكرتنا وتكبر معنا ولا نستطيع نسيانها لا بل لا تريد ذلك، فهي تغرس فينا المزيد من الأسئلة التي نعبّر عنها من خلال القلم. وتبقى ‹غابة المفارقات› كما أسماها ‹ستير داغرمان› هي بالتحديد نطاق الكتابة وهي المكان الذي يتعين على الكاتب ربما أن لا يحاول الفرار منه. فهي السؤال والتدوين المستمران عبر الزمن. فالكتابة رحلة وجودية نستقصي فيها عن سر العالم الذي نعيش فيه من خلال استقصائنا عن سر الذات التي تسكننا!

بقلم : خالد وليد
copy short url   نسخ
20/08/2016
4405