+ A
A -
مدينة، كما مدينة رسول الله، وشعب كما شعب مدينة المصطفى، وموقع كما موقعها، ما الذي دفع علي ابن أبي طالب أن ينقل عاصمة الأمة إلى الكوفة، ومعاوية ابن ابي سفيان ينقل عاصمة الدولة الإسلامية الثانية إلى دمشق، والعباس ينقل عاصمة الدولة الإسلامية إلى بغداد، ثم العثمانيون الذين نقلوا عاصمتهم إلى إسلام بول أو الاستانة أو القسطنطينية، ومن ثم تنقلت عواصم الخلافة إلى القاهرة وحلب وطليطلة وغيرها.. وتغرب الإسلام الذي آن الأوان ليعود إلى المدينة المنورة عاصمة الدولة الإسلامية الأولى.
واليوم والأمة تستعد لأداء مناسك الحج فلا بد من زيارة مدينة رسول الله ونأخذ من زيارتها العبرة نحو توحيد كلمة الأمة على هدي المصطفى صلوات الله وسلامه عليه، فقد زرت المدينة بعد أداء فريضة الحج قبل اكثر من عقد وكتبت في مدونتي..
«بعد طواف الوداع، بدأنا الاستعداد للسفر إلى المدينة المنورة، وزيارة قبر المصطفى عليه الصلاة والسلام. وأنا اجلس في الباص «سوبر جت» المكيف، الذي سيسلك طريقا معبدا إلى المدينة المنورة عدت إلى عام الهجرة الأولى، والمهاجر هو المصطفى صلوات الله وسلامه عليه، والمسافة بعيدة جدا في حافلة فكيف الحال سيرا على الأقدام أو ركوبا على دواب، فالمدينة تبعد عن مكة أكثر من 500 كلم، والطرق جبلية وعرة وأهل قريش يتربصون بالرسول. وهذا المهاجر يحتاج في رحلته إلى صحبة تعرفه بمواقع القبائل وتؤنسه فاختار أبا بكر الصديق رضي الله عنه الذي له معرفة بالقبائل والأنساب، واختار عبدالله بن اريقط وهو دليل ماهر يعرف الطرق، واختار أبو بكر عامر بن فهيرة وهو راع يعنى بالرواحل ليكون في عون الرسول وصاحبه، ومن هؤلاء تكون الركب الأول في ليلة اتخاذ الرسول قرار الهجرة إلى المدينة. ولكن هل ترك الرسول «مكة» البلدة التي أحبها دون ان يرتب الأمور خلفه؟ فقد كان عليه الصلاة والسلام يعيش في مكة وهو محل ثقة القوم رغم العداءات من أجل الإسلام، كانوا يحاربونه ويثقون فيه يكذبونه ويضعون عنده ودائعهم وأماناتهم، فإذا هاجر فمن يرد الودائع، وهل يعلن لأصحاب الودائع انه مهاجر فليحضروا لاستلام أماناتهم؟ فرد الودائع أمر أساسي، فهو الصادق الأمين وحاشاه ان يخون أمانته فاختار ابن عمه علي بن طالب رضي الله عنه لينام في فراشه ليلة الهجرة وليرد الودائع إلى أصحابها بعد هجرته وليلحق به بعد ذلك. تحرك بنا الباص، وعبرنا النفق في الطريق إلى المدينة، وانا أبحث عبر الجبال عن الطرق التي سلكها صلى الله عليه وسلم، فقد اتجه إلى الجنوب الشرقي، وهو آخر وجهة يظن اعداؤه انه اتجه اليها واختار مكانا وعرا صعب المرتقى - وهو في الثانية والخمسين من عمره- وقد أدميت قدماه الكريمتان على الطريق، كما تقول الروايات كنت أبحث عن الغار بين الجبال الذي كان عليه الصلاة والسلام يتتبع من خلاله الموقف في مكة، حيث كان عبدالله بن أبي بكر يقضي سحابة يومه بين القوم يسمع ما يقولون ويعود إلى الغار مساء ليقدم إلى الرسول تقريرا يوميا عن مكة. بحثت عن «ذات النطاقين» أسماء بنت ابي بكر تعد الطعام وهي حامل تحمله إلى الغار، وكان عامر بن فهيرة راعي ماشية ابي بكر يذهب إلى الغار بماشيته ليقضي على آثار عبدالله بن أبي بكر وشقيقته أسماء حتى لا يصل العرب المهرة في قص الأثر إلى الغار.
مضى الباص في طريقه بأمان وسلام، وهواجس أبو بكر خوفا على الرسول وهما في الغار حين وقف القوم على بابه يتهامسون، فيما رسول الله يطمئن صديقه «لا تحزن ان الله معنا» صوت كدت استحضره ليرن في أذن كل مؤمن وحين اقبلنا على المدينة، شعرت بانشراح وجلاء هم وغم، وكان النشيد النوراني الذي استقبلت به فتيات المدينة رسول الله «طلع البدر علينا من ثنيات الوداع.. وجب الشكر علينا ما دعا لله داع» يرن في أذني وانشدت الأنشودة، وكأن الرسول عليه الصلاة والسلام بين ظهرانينا يرد علينا التحية والسلام وتساءلت هل كان الرسول حزينا لتركه «مكة»؟! بالتأكيد، فهي مسقط رأسه، وبها نشأته وبها نزل الوحي، وقد قال عليه الصلاة والسلام «والله إنك لأحب الأرض علي ولولا أن أهلك اخرجوني منك لما خرجت» لكن أمر الهجرة كان محسوبا بدقة، فالمدينة كانت قاعدة الإسلام الأولى وعاصمة دولة الخلافة الأولى، ومنها انطلقت فتوحات المسلمين، وقد هاجر صحابة رسول الله إلى المدينة وعاد من هاجر إلى الحبشة إلى المدينة، وقد بايع الرسول أهل المدينة وبايعوه ان ينصروه وان يعيش فيها مدى عمره، وفيها انتقلت روحه إلى بارئها، وفيها دفن جثمانه عليه الصلاة والسلام. كل شيء في المدينة مرتب، الصلاة في الحرم المدني، وفي الروضة الشريفة، فللنساء مداخلهن، وللرجال، توجهت إلى الحرم، ودخلت إلى منبر رسول الله، وتوجهت إلى قبره وقلت: «السلام عليك يا نبي الله، السلام عليك يا سيد المرسلين وإمام المتقين، أشهد انك قد بلغت الرسالة وأديت الأمانة ونصحت الأمة، وجاهدت في الله حق جهاده»، وألقيت التحية على الصديق ابو بكر وعلى الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنهما، وغادرت وأنا حزين، فقد كنت خجولا، مطأطئ الرأس، فهذه أمة الإسلام التي تأتي حاجّة وزائرة لقبر سيد الأمة غير قادرة على رفع الظلم عن شعوبها، التي تحرق في الهند، وتقتل في كشمير، وتغتصب في دول البلقان، وتنتهك حرماتها ومؤسساتها وينتهك أطفالها ونساؤها في فلسطين. نعم.. يا جدنا عمر بن الخطاب، نحن نخجل ان نقف أمام قبرك، بعد ان اضعنا القدس وعهدتك التي عاهدت فيها النصارى الا يساكنهم في القدس يهودي، وها هم اليهود يعيثون فيها فسادا، ونحن في صمت عميق أحسست بصفعات على خدي وانا أغادر القبر والروضة الشريفة، ودعائي إلى الله ان يهيء للأمة قادة يسيرون على خطى رسول الله والخلفاء الراشدين. هذا جبل أحد، وهنا جرح رسول الله، وهنا استشهد حمزة بن عبدالمطلب عم رسول الله وهذه قبور شهداء هذه المعركة التي تقع على مدخل المدينة، وقد جاء الكفار من مكة على بعد 500 كلم ليقاتلوا رسول الله الذي انتصر عليهم في بدر، هذا هو جبل الرماة الذي تركه رماة السهام ولاحظهم خالد بن الوليد وكان في صف الكفار حينئذ الذي التف من خلف جبل أحد وعاد إلى المسلمين بعد ان أعاد ترتيب صفوف جيش الكفار لينقض على المسلمين في تلك المعركة التي علمتهم كيف يحافظون على مواقعهم، وكانت نقطة تحول في حياتهم الحربية، ومن نتائجها حققوا انتصارات في مختلف المعارك. غادرت المدينة المنورة وهي مطبوعة في ذاكرتي وعلى صفحة قلبي، وسؤالي هل يمكن أن تعود المدينة عاصمة للأمة كما كانت؟

بقلم : سمير البرغوثي
copy short url   نسخ
16/08/2016
864