+ A
A -
منى بابتي كاتبة لبنانية

جلست أمامها، وبدأت تتعمد إهانتي، بتجاهلي مرة، ورفض الإصغاء لي مرات متعددة، وعدم النظر في وجهي طيلة فترة الجلوس، ومحاولة الخروج دون الاهتمام بما أحاول طرحه، وعدم توجيه الكلام لي مرات متعددة – وأنا الضيفة المدعوة من قبلها، والوحيدة على ذلك الكرسي البارد -، وإنكار «من أنا» أكثر من مرة، ومع محاولاتي الفاشلة في إقناعها للبقاء ومناقشة النقاط التي جعلتها تشعر بالاستياء، استسلمت، وتساءلت: «هل تدرك تلك السيدة اللطيفة قلبًا وقالبًا – على الرغم من ادعائها القسوة أمامي – فأنا درت الكون مرات ومرات، والتقيت بآلاف الوجوه، وتعرضت لمئات المواقف، وأدرك تمامًا صفات – من أمامي – أنها أساءت لي وهي لا تعرفني، وبنت صورة عني، وهي لم تتعامل معي، لكنني تجاوزت كل هذا، وخرجت، وكان هذا مجرد موقف، أضيف إلى صفحات ذاكرتي بنكهة مؤلمة.

وعادت بي الذاكرة إلى ذلك اليوم، حين كنت مع صديقي «الياباني» في الكويت، حينما دخل أحد المدربين القاعة، وبدأ محاضرته، وما هي إلا لحظات، حتى التقطني من بين الحضور، وأخذ يسألني عن اسمي، وطني، فكري وعملي، وهنا تنبه المدرب المحاضر، إلى أنني كنت ما زلت في البدايات، وأنني أجلس بين عمالقة في مجالات مهمة، سواء وظيفية أو اجتماعية، ليس هذا فحسب، بل لقد أتيت من وطن بسيط، أرضه تلامس سماءه، كما تلامس أحلامي سماء الحاضرين لاكتساب خبراتهم ومعارفهم، فبدأت رحلة التجاهل الأولى في حياتي من المدرب، آلمتني نظراته المنكرة لاسمي ووجودي، جرحتني كلماته التي كانت تطعن مسامعي دون أن ينظر في وجهي، فبكيت.... وبدأت دموعي بالانهمار... مدّ صديقي الياباني يده وشد على يدي، ثم ابتسم قائلاً: توخَّي الألم... لا تتوخَّي الحذر».. وانتهت المحاضرة وأنا في قمة الحزن.

هناك أمام ذلك الباب في ذلك الأوتيل، حاولت الكلام للدفاع عن نفسي، فحاول صديقي الياباني دفعي للصمت، ثم أخذني إلى الباحة الامامية للأوتيل، وأمام تلك الشجيرات الصغيرة والساحة المكتظة بالسيارات، طلب مني الجلوس أرضا والتمدد والنظر إلى السماء، ثم جلس بجانبي، وفي تلك اللحظة، تكلم صديقي، وعيوني مغرورقه بالبكاء: هل رأيت مدى رحابة السماء، وهل أدركت كم أن هذا الكون واسع، ولكننا نشعر جميعًا بالاختناق، حاولي التنفس وتوخي الألم، وامضي بعيدًا عنهم، لا تدوري في فلك كلماتهم، لا تتبحري في المعاني العميقة لتصرفاتهم، صديقتي العزيزة، - توخي الألم فقط فكم من المرات التي توخينا فيها الحذر ولم ينفعنا -، كوني كما أنت، وتابعي الطريق، وغامري بالانضمام إلى من يشبهونك ومن لا يشبهونك، وربما لن تستطيعي أن تنقذي نفسك من مواجهات مؤلمة وكلمات تطيح بكرامتك، لكن اعلمي أن الكون لنا جميعًا ولا حدود له، فأبحري وتمتعي باختلاف الوجوه والحروف، وتوخي الألم، ودعي كلماتهم الحارقة تتحول جسر عبور لحياة أفضل، دعي أخطاءك – ومن منا لا يخطئ – تتحول إلى صفعات مؤلمة على وجهك توقظك من غفلتك، من حماسك في كل مرة، لتذكرك، بأن هناك الكثير ممن يقف خلف بابك، ليهينك، ليدمرك، ليؤنبك،- فهذا حال البشر - فتوخَّي الألم....ولا تتوخَّي الحذر... وانطلقي فالكون يتسع لك ولهم.

copy short url   نسخ
24/09/2022
15