نقَل ابنُ الجوزيّ في كتابه «أخبارُ الحمقى والمغفلين» عن أبي العيناء أنه قال: دخلَ العطويُّ الشاعرُ على رجلٍ بالبصرةِ وهو في النزعِ الأخيرِ، فقال له: يا فلان قل لا إله إلا الله، وإن شئتَ فقل لا إلهاً إلا الله، والأولى أحبُّ إلى سيبويه، وعليها مذهبُ نحاة أهل البصرة!

قولُ العطويِّ صحيحٌ لا شك، ولكنَّ ابن الجوزيّ صنَّف الحادثةَ في أخبار الحمقى لأنَّ العرب تقول: لكلِّ مقامٍ مقال، والقولُ الصحيحُ في غير موضعه حمق، ولا أحمق من رجلٍ يعرضُ على رجلٍ في النزعِ الأخيرِ أقوالَ النُّحاةِ في عمل لا النافية للجنس!

ومن ضُروب الحُمق عند العربِ «التّقعر» في الكلام، والتّقعر هو الإتيان بغريبِ الألفاظ، وسوقه أمام من لا يعرفُه، حتى ليبدو كأنه من لغةٍ أخرى، أو من كلام الجان! كما فعلَ أبوعلقمة النحويّ عندما نزلَ به مرض، فذهب إلى الطبيبِ وقال له: أمتعَ الله بكَ، إني أكلتُ من لحومِ هذه الجوازم، فطسئتُ طسأةً فأصابني وجعُ الوابلةِ إلى ذاتِ العنق، فلم يزلْ يربو وينمُو حتى خالط الحلبَ والشراشيف، فهل عندكَ دواء؟!

فقال الطبيب: خُذ حرقفاً وسلقفاً فزهدقه وزقزقه واغسله سافراً بماء روث واشربه!

فقال له أبوعلقمة: لم أفهم منكَ شيئاً


فقال له الطبيب: قاتل الله أقلنا إفهاماً لصاحبه!

والتقعرُ في الكلام، واستعراضُ العضلاتِ اللغويّة عند العرب من قلةِ الأدب، كما ذكرَ الحسين بن السّميدع الإنطاكيّ، أن والي انطاكيا كان له كاتب فصيح أحمق، وطلب الوالي من كاتبه أن يكتب إلى أمير حلب بخبر غرق سفينتين له، لأنّ إنطاكية كانت تابعة وقتذاك إداريّا إلى حلب، فكتب يقول:

أما بعد، فاعلم أيها الأمير أن شلنديتين، أي مركبين، قد صفقا في البحر من شدة أمواجه، أي غرقا، فهلكَ من فيهما، أي تلفوا، أدامك الله، أي أبقاك، والسلام.

فكتب إليه أمير حلب يقول: ورد كتابك، أي وصل، وفهمناه، أي قرأناه، أدِّب كاتبكَ، أي اصفعه، واستبدل به، أي اعزله، فإنه مائق، أي أحمق، والسلام، أي انقضى الكتاب!

وقد كنتُ حتى قبل أيامٍ أعتقدُ أنّ المتقعرين قد انقرضوا، ولكني تفاجأتُ أن لهم بقية! فقد كتب أحدهم إعلاناً عارضاً فيه بيع سيارته فقال: إليكم عباد الله أزجي بضاعتي، على أنني بالكاد أرضى فراقها، يلومونني في بيعها لا أبا لهم، فقلت: صروف الدهر كيف دفاعها!

ألا وإنَّ الزمنَ غلاب، والوقت ذو انقلاب، ولولا الظروف وخشية الحتوف، ما فكرتُ ولا غامرتُ، ولا أعلنتُ ولا شاركتُ، واعلموا أن اللكزس من خير ما يُركب، اللهم ارزقني أسطولاً من اللكازس، والسيارة صنع 2007!

ولم يشفِ غليلي في تقعره إلا ثلاثة ردود ساخرة جاءت بعد كلامه، قال له الأول: يا أخا العرب هل فُتحت الماكينة أم ما زالت بكراً، وهل عقدَ عليها أحدٌ قبلك، أم أنكَ الأول والأخير لها يا أبا حلزة!

وقال له الثاني: هل تقايضني إياها بألفي صاع أرز وألف صاع من تمر نجد؟

وقال له الثالث: كم قطعت دابتكم من فرسخ، وهل سلكتَ بها الفيافي والقفار، أم داخل الدار بين الأهل والأصحاب؟ وهل تبيعها بمائة صاع بر، ومائة أخرى شعير تعلف بها دوابك، فإن وافقت فالملتقى سوق عكاظ أو عتبة دار الأرقم والسلام!

إن لم يكن من التقعر في الكلام إلا أنه يضعنا في مواقف «بايخة» لكفى، ولكنه أيضاً مخالف للفطرة السوية، فتضيع به الفكرة لصالح اللغة، وقد قال صلى الله عليه وسلم: «نحن معاشر الأنبياء أُمرنا أن نخاطب الناس على قدر عقولهم»! واللغة جزء من العقل، وكل كلام ينقسم إلى قسمين: فكرة وأسلوب، والأسلوب هو حامل الفكرة، فإذا انقطع حبل الكلام بين القائل والسامع ضاعت الفكرة.

هذا ما استقام لي بيانه، أي كتابته، وأعانني الله على تبيانه، أي تبليغكم به، فأرجو أن تعوه، أي تفهموه، ولا يذهب أدراج الرياح، أي هباءً، وإن الكلام قد تم، أي اكتمل، والسلام، أي نلتقي في السبت القادم!

بقلم : أدهم شرقاوي