+ A
A -
سعاد فهد المعجل كاتبة كويتية

أرسل لي الصديق العزيز عبدالمحسن المطيري مقطعًا لقصة طريفة؛ لكنها أثارت انتباه العلماء ومن ثم قامت عليها دراسات. القصة تقول إنه في التاسع عشر من أبريل عام 1995 قام رجل يدعى ماك آرثر ويلر بسرقة مصرفين في بيتسبيرغ في ولاية بنسلفانيا، لم يكن يرتدي قناعاً، بل كان يبتسم ويلوّح بيديه باتجاه كاميرات المراقبة. لكن ما فَعَلَه أيضًا لإخفاء هويته هو تلطيخ وجهه بعصير الليمون؛ لأنه سَمِعَ أن عصير الليمون يُستَخدَم لِصُنع حبر غير مرئي، لذلك فقد افْتَرَضَ أن الليمون سَيحوِّل وجهه أيضًا إلى غير مرئي، حتى انه حاول تهدئة وطَمأنة واحدة من الصرافين بالقول لها: لا تخافي لدي وجه، لكنه غير مرئي الآن. وغني عن القول إن الشرطة قبضت عليه بسرعة كبيرة، وعندما أروه صورته على كاميرا الأمن وهو يسرق البنك مع وجهه على كامل الشاشة، حدّق في مقطع الفيديو مندهشًا تمامًا وهو يهز رأسه غير مصدّق ويقول: «ولكني لَبِست العصير».

لَفَتَ هذا الحادث انتباه الطبيب النفساني ديفيد دانينغ في جامعة كورنيل، وقد استعان بأحد طلابه الخريجين وهو «جاستين كروج» وأجروا معًا سلسلة من التجارب في محاولة لإيجاد علاقة متبادلة بين الكفاءة والثقة عند الناس العاديين، وما وجدوه هو أنه مرارًا وتكرارًا في مجموعة متنوعة من الأشخاص الذين يعرفون القليل عن موضوع ما، يميلون إلى التفكير أنهم كانوا خبراء في هذا المجال، وهذه هي الظاهرة التي يُطلَق عليها الآن اسم «دانينغ كروجر» نسبة إلى الطبيب وتلميذه، مُلخّصها أنه عندما يعتقد الأشخاص الأقل معرفة أنهم يعرفون الأكثر تكون النتائج كارثية، لذلك في المرة المقبلة التي ترى فيها شخصًا يتجادل مع طبيب أو عالم حول فعالية قناع الوجه أو أن اللقاحات ليست آمنة أو أن الأرض مسطّحة أو أن البراكين هي الأشجار العملاقة القديمة، ما عليك سوى أن تَتَذكّر هؤلاء الناس الذين يعرفون القليل من العلم ويَثِقون بكمية ما يعرفون، هم قطعًا ليسوا مجانين، لكنهم مثل صاحبنا يعتقدون أن الليمون يمكن أن يحوّلهم إلى أشخاص غير مرئيين.

تأثير «وانينغ كروجر» هو باختصار إذن يعني الانحياز المعرفي والذي يُشير إلى مَيْل الأشخاص غير المؤهّلين للمبالغة في تقدير مهاراتهم بسبب عدم قدرتهم على التنافس والمعرفة. أي إنهم يُعانون من وَهْم التفوّق مُبالغين بذلك في قدراتهم المعرفية وبشكل يجعلها تبدو أكبر مما هي عليه في الحقيقة.

قد تكون أزمة كورونا أثبَتَت أننا جميعاً بشكل أو بآخر نُعاني من تأثير «دانينغ كروجر» وإن كان بدرجات نسبية ومتفاوتة وبِحَسب مكونات الشخصية والخلفية العلمية أو المعلوماتية، فجميعنا أصبح أطباء ومتخصصين في علوم الأوبئة والفيروسات وعلماء في اللقاحات وفاعليتها وآثارها الجانبية، وقد تكون حقبة كورونا استثنائية ضاعَفَت من بروز مثل هذا التأثير، لكن ذلك لا يعني أنه ظاهرة وتشخيص نفسي موجود لدى شرائح كبيرة من البشر الذين يَجهَلون قياس خبراتهم أو معرفتهم الفعلية، لكنهم يفتقرون إلى القدرة في التعرّف على ذلك أو كما جاء في مقولة الخليل بن أحمد في وصف الرجال بأن الرجل الذي لا يدري ولا يدري أنه لا يدري فذلك أحمق فاجتنبوه.

غالبًا ما يؤدي الخلط لدى بعض الناس بين الثقة بالنفس والكفاءة إلى أمور مؤسفة بل ومدمّرة أحياناً، فما لم يَتم دَعم الثقة بالتدريب والتعلّم والإبداع لتأمين كفاءة موازية للثقة، فإن الخَلْط وارد ويؤدي غالبًا إلى الوهم والمبالغة في القدرة، ولعل مثل هذا الخلط يكون مدمرًا خاصة في حالة تقلّد مناصب سياسية رسمية أو إدارية أو مالية، حيث تَغلِب الكفاءة هنا الثقة خصوصًا في السلّم العملي الأعلى.وفقًا لدراسة «دانينغ كروجر» يأتي التقييم الذاتي غير الصحيح للكفاءة مؤشراً على جهل الفرد بمعايير أداء مُعيّنة، أو كما قال ديفيد دانينغ: «إذا كنت غير كفء، ولا يمكنك أن تعرف أنك غير كفء، فالمهارات التي تحتاجها لِتَتَوصّل إلى الجواب الصحيح هي بالضبط المهارات التي تحتاجها لتعرف ما الجواب الصحيح».

copy short url   نسخ
22/09/2022
0