+ A
A -
كنت في بادئ الأمر أظن أننا جميعًا ولدنا أحراراً، وأننا غير مكبلين بقيود تحجب عنا حريتنا للتعبير وللاختيار، وأن الأسوار الحديدية هي فقط التي تلغي حريتنا وتسلبنا قدرتنا على العيش بكرامة، لكنني وبعد أن غزا الشيب مفرقي، اكتشفت أننا نعيش سجناء دون أسوار في حلبة الأهواء البشرية، فكم من سجين حر في سجنه، يبحر في عالم فكره بكرامة كيفما يشاء، وكم من حر سجين في حياته أسير ترهات وضعناها نحن البشر.
كنت أحب الهرب من نفسي، والارتماء على أطراف طريق معبد، يعد من أجمل الطرقات التي شكلت لتكون ممشى عاما، يسهم في إعادة الأوكسجين إلى قاموس حياتنا، فينعش رئتي بالحياة، وفي كل مرة كنت ألتقيه، فما إن يراني من بعيد حتى يهب واقفًا ويبتسم في وجهي. في بداية الأمر، لم يزعجني الموضوع، لا بل على العكس كنت أشعر بالسعادة، فهذا الرجل الآسيوي كان يبتسم لي في وقت، باتت الابتسامة الصادقة تكلفك جزءا من عمرك.
ولكنني بدأت أشعر بالانزعاج، فهو ينتفض كالأسد يقف أمام كل المارة، يطأطئ رأسه، ويوزع الابتسامات، فاقتربت منه، فانتفض كعادته وابتسم، وسألته بعد أن علمت منه أنه يدعى «هارون» وهو في العشرين فقط من العمر، سألته عن سبب وقوفه المتكرر لكل المارة، فقال لي: «يجب أن أقف احترامًا لهم». في بداية الأمر، ظننت أنها مجرد رغبة في احترام من يجدهم في طريقه، ولكن الصدمة كان حين تابع قائلاً: «لا يحق لي الجلوس وهم يمرون، يجب أن أقف، وأبقى واقفًا حتى يمرون، وعندما قلت له: قل لي لماذا ؟ قال لي: «يجب أن أبقى جاهزا لخدمتهم
غادرت المكان وأنا في قمة الاستغراب، كيف تمكنا أن نغرس في ذهن هذا الشاب هذه القيود، ولكنني تركت الأمر يمضي، وعدت إلى بيتي محاولة تناسي الأمور، ولكن القدر قاد صديقة عمري إلى داري مع ابنتها ذات الثمانية أعوام وخادمتها الجديدة، دخلت صديقتي وجلست، وتناسيت الأمر تمامًا، لأصحو بعد قليل من غفلة اللقاء، وألمح ابنة صديقتي تضرب الخادمة التي ما زالت واقفة عشرات المرات برجلها معبرة عن غضبها لمجرد أنها تشعر بالضجر، انتفضت وقفت أمام صديقتي وسألتها: «قولي لي لماذا تدعين ابنتك تفعل هذا الأمر، ولماذا خادمتك ما زالت واقفة»؟ فأجابتني ببرودة غريبة: «لا داعي للقلق، فهي تستطيع الوقوف لساعات طويلة، وعليها تحمل مزاج ابنتي المتقلب حتى تهدأ».
صمتت ثم رفعت رأسي قائلة لصديقة العمر: «بئسا لنا من أمهات، ولست أولى الفاعلات، ولن تكوني آخر المذنبات، قولي لي لماذا بات عالمنا مليئا بكل هذه الأخطاء، كيف تدعين طفلة تهين بهذه الطريقة إنسانة مسكينة؟ نظرت لي صديقتي، وقالت: «لا تكبري القصة، شو صار يعني، البنت عصبت شوي»، فابتسمت وارتشفت القليل من قهوتي الباردة، وتابعت يومي محاولة البقاء جالسة، صماء، عمياء، بكماء.
صديقي القارئ، لا تقل لي لماذا، فأنا لا أملك الجواب، ولن يصلح الدهر ما أفسده الإنسان.
copy short url   نسخ
13/07/2019
972