+ A
A -
محمد الشبراوي
قبل التسرع في إصدار الأحكام، يأتي الوقوف على حقيقة الأمر وواقعه سمة العقلاء في كل عصر ومصر. حقن المصطفى -صلى الله عليه وسلم- دماءَ بني المصطلقِ من خُزاعةَ، وأمر خالدَ بن الوليد بالتثبت قبل الوثوب عليهم؛ فامتثل أمرَ النبي.
أثبت التقرير الاستقصائي أن بني المصطللق لم يرتدوا، وأنهم باقون على العهد متمسكون بواجباتهم. قبلها بساعاتٍ، عاد الوليدُ بن عقبة بن أبي معيط -دون تثبتٍ- ليقول للمصطفى: يا رسول الله! منعَ بنو المصطلق الزكاةَ، وكادوا يقتلونني! مبالغة غاب عنها التثبت من الواقعة، كادت تهلك أبرياء، لكن الله سلّم.
في عام 1956، أنتجت شركة جرونتال الطبية الألمانية مادة فعالة تدعى «ثاليدوميد Thalidomide» لعلاج غثيان الصباح للسيدات الحوامل والأرق والصداع، وروَّجت للعقار الجديد تحت الأسماء التجارية «كونترجان، ديستان، ثاليوميد» وغيرها. اتسمت الدعاية المصاحبة بالمبالغة غير المبررة، ما أكسب المنتج انتشارًا منقطع النظير، وذاع استعماله في ألمانيا ودول القارة العجوز، ومنها إلى كندا، واستراليا، وإفريقيا، والشرق الأوسط واليابان.
لم توافق السيدة فرانسيس أولدهام كيلسي، الموظفة بإدارة الغذاء والدواء الأميركية FDA، على دخول العقار لبلدها، ورفضت السماح باستخدامه متعللة بعدم كفاية الدراسات حول أمان تناوله على الأجنة خلال فترة الحمل. قوبل رفض كيسلي باستياء شديد، واتهمت بالتقاعس عن تلبية احتياجات بنات جنسها الحوامل، وسخرت منها الصحف طويلا، لكنها لم تتزحزح عن موقفها.
التضليل لا يدوم طويلاً، واستيقظ العالم على مقالة كتبها الطبيب الألماني، ويدمان نلسن عام 1961 إثر فحصه لحالتين من الأطفال بدون أيدي أو أقدام، نشرت المقالة في إحدى المجلات الطبية المتخصصة، وفيها سرد ويدمان الأعراض الناجمة عن استخدام الثاليوميد، وأيده الطبيب الأسترالي مكبيرد مؤكدًا قدرة الثاليدوميد على اجتياز غشاء المشيمة، ومنع نمو الأوعية الدموية الجديدة اللازمة لنمو الأيدي والأقدام في الأجنة!
ترتب على استعمال الثاليدوميد ظهور جيل بلا أطراف أُطلِق عليه (جيل الثاليدوميد)، وأوقِفَ استعماله في العالم عقب هذه الكارثة المؤلمة، وأصبح مثالا تاريخيا للتشوهات الجينية الناجمة عن تناول الأدوية خلال فترة الحمل، ومثالًا -في الوقت نفسه- للمبالغات الرخيصة في عالم التسويق.
العواقب الوخيمة للثاليدوميد -على فداحتها- لم تتوقف عند اختزال الأطراف، بل شملت كذلك تشوهات الحبل الشوكي والأوعية الدموية، فضلاً عن حالات إجهاض متأخر. بلغ عدد الأطفال الذين قضى الثاليدوميد عليهم بالشقاء أبد الدهر 12 ألف طفل حول العالم في 46 دولة، منهم 2000 شخص يكابدون مرارة الحياة. كشف التاريخ الوجه القبيح لدعاية غير أمينة، سعت لجني الأموال من دون تجشم عناء التثبت، وبغض الطرف عن مأمونية ما يقدمونه للأبرياء، وسواءً أكان ذلك من باب التساهل أو الجهل بعواقب الأمر، فإن هذا لن يغير من معاناة جيل الثاليدوميد قيد أنملة.
ولا ينسى التاريخ المواقف العظيمة للشرفاء مهما تغافل عنها الناس، فمع ظهور كوارث استعمال الثاليدوميد، كرَّم الرئيس الأميركي جون كيندي السيدة كيلسي لموقفها النبيل، ولإصرارها على منع دخول الثاليدوميد للولايات المتحدة، بالرغم مما تعرضت له من ضغوط لتمرير ملف العقار. كن على قدر مسؤوليتك، وتذكر النصيحة الربانية «فتبينوا»، واعلم يقينًا أنك راعٍ وموقوفٌ بين يدي الله -عزَّ وجلَّ- ومسؤول: هل أديتَ أم ضيعت؟ فالزم منهج «فتبينوا»، تسلم ويسلم الآخرون.
تبيَّن قبل أن تُدلي بتصريح، وقبل أن تَعِدَ أحدهم وعدًا قد يبني عليه قصورًا من الآمال والأماني، وتثبت قبل أن تُفتي الناس بغير علم، وقبل أن تقصف الأبرياء في اليمن وليبيا، وليكن التثبت منهج حياة، لنحفظ مجتمعنا من بوائق الدهر.
copy short url   نسخ
13/07/2019
1239