في ريف تيبيراري الهادئ، حيث تختلط الأبراج الحجرية بتقلبات التاريخ، لم يكن المشهد عابرًا حين وقف معالي الشيخ محمد بن عبد الرحمن آل ثاني يتسلّم جائزة تيبيراري الدولية للسلام. لم تكن الجائزة مجاملة سياسية، ولا مناسبة بروتوكولية معتادة، بل كانت اعترافًا صريحًا بأن في الدوحة رجلًا يصوغ السلام لا بالخطابات، بل بالهندسة الدقيقة للمواقف، وأن وراءه دولة تؤمن بأن الحضور لا يحتاج ضوضاء كي يُسمع.
بصمت الواثقين وقف، يتحدث باسم قطر لا باسمه. اختصرها في عبارة حملت فلسفة المشهد «هذا التكريم ليس لشخصي، بل تقدير لدولة اختارت أن تجعل من الحوار ثقافة لا لحظة، ومن السلام التزامًا لا مجاملة». جملة واحدة كانت كفيلة بأن تختصر فلسفة السياسة القطرية في السنوات الأخيرة؛ سياسة اختارت ألا تكون تابعًا ولا صدى، بل أن تصنع معادلتها الخاصة وسط إقليم يعجّ بالأصوات العالية والخطابات المتضادة.
ليس سرًا أن معالي الشيخ محمد بن عبد الرحمن لم يكن ممن يظهرون في كل نشرة أو يتصدرون كل عنوان، لكنه كان حاضرًا حيث تنعقد الأزمات وتتعثر المبادرات. رجل قليل الكلام، شديد الأثر. من كواليس الملف الأفغاني، إلى الوساطات في غزة، إلى جهود خفض التصعيد في الحرب الأوكرانية، كانت قطر حاضرة، وكان هو ممثلًا لها بنموذج مختلف: نموذج الوسيط المحترم، لا المهيمن، والمُفاوض المتوازن، لا المتدخل. ففي فبراير 2020، رعت قطر اتفاق السلام بين الولايات المتحدة وطالبان في الدوحة، بعد مفاوضات امتدت لأكثر من عامين. وفي غزة، كان دعمها الحاسم للتهدئة في مايو 2021 إشارة واضحة لقدرتها على التهدئة حين يعجز الكبار. أما أوكرانيا، فرغم بُعد المسافة، بقي صوتها داعمًا للحلول السلمية، حريصًا على البُعد الإنساني، بعيدًا عن تسييس المأساة.
لكن تكريم معالي الشيخ محمد بن عبد الرحمن لا يُقرأ خارج سياق الدولة التي ينتمي إليها. فالشخصية لم تُبنَ في فراغ، بل تشكّلت داخل مدرسة قطرية ترفض المزايدة، وتُؤمن بأن الحكمة السياسية ليست رفاهًا فكريًا، بل ضرورة استراتيجية. فمنذ سنوات، تسير قطر في خط واضح: التوازن دون تبعية، التأثير دون استعراض، القوة من خلال الثقة لا من خلال الضجيج. وهذه المدرسة لم تكن فقط موقفًا نظريًا، بل تحوّلت إلى نهجٍ تتعامل به الدولة في كل ملفاتها، من العلاقات الخليجية إلى النزاعات الدولية. ولعل ما يُلفت في هذا التكريم أنه أتى من قارة بعيدة، من مدينة أيرلندية صغيرة، لكنها بعينها التقطت جوهر ما تمثله قطر اليوم: بلد صغير بالمساحة، كبير بالفعل، يتقن فن الصمت حين يعمّ الصراخ، ويعرف متى يتقدم ومتى ينسحب. لم يكن الحدث احتفاءً باسم، بل إقرارًا بمرحلة، وربما بداية لعصر جديد تُعيد فيه المنطقة تعريف مفهوم القيادة والنفوذ.
ليست هذه الكلمات احتفاءً بتكريم دولي، بل إضاءة على ما جعله ممكنًا: أداء ثابت، وحضور غير صاخب، ولغة سياسية لا تتوسل التأثير... بل تصنعه. قطر اليوم لا تحارب لتُرى، بل تُرى لأنها تستحق. وممثلها معالي الشيخ محمد بن عبد الرحمن لا يطالب بالاعتراف، بل يُنتزع له احترامه بأداء نظيف، بخطاب موزون، وبلغة لا تغريها المبالغة. لقد أصبح نموذجًا لرجل الدولة الذي لا تغريه الشهرة بقدر ما تجذبه النتائج، ولا يبحث عن الكاميرا، بل يدير العدسة نحو الحل.
إن الحديث عن شخصية معاليه هو بالضرورة حديث عن صورة قطر في مرآة العالم. دولة استطاعت أن تُثبت أن السلام لا تصنعه فقط القوى الكبرى، بل تُنجزه الإرادة حين تكون صلبة، والنية حين تكون مخلصة. وبين ضجيج السياسة وركام الأزمات، اختارت قطر أن تكتب مسارها، وأن تحمل مفاتيح الأبواب المغلقة، ولو لم تكن تملك المطرقة.
لم تكن هذه السطور لحظة مجاملة، بل توثيقًا لنموذج. نموذج لرجلٍ يُجيد الحديث حين يلوذ الآخرون بالصمت، ويختار الصمت حين تعلو الضوضاء. ونموذج لدولةٍ تخلّت عن منطق الاصطفاف، وآثرت أن ترسم لنفسها موقعًا لا يُشبه أحدًا، لكنها تستحق أن يُشبهها كثيرون. وفي تيبيراري، لم يُكرَّم وزير، بل كُرّمت فلسفة… تُدعى قطر. فلسفة تؤمن أن السلام ليس أمنية تُقال، بل موقف يُصاغ، فالأوطان لا تُقاس باتساع رقعتها، بل بأثر صوتها حين يسكن ضجيج الآخرين.Instagram: hamadaltamimiii