+ A
A -

عشتُ رحلة مهمة مع العالم الكبير الشهير في تاريخ المسلمين، والذي اطلق عليه علماؤنا رحمهم الله، حجة الإسلام وهو الإمام محمد الغزالي، والذي يعتبره كثير من علماء المسلمين المجدد المطلق للقرن الخامس الهجري، وأول ما اُسجله هنا هو أن هذه الزاوية التحليلية الفكرية، من حياة الإمام ومن مشروعه الضخم في التصوف الإسلامي، ليس حكماً عاماً على الإمام العظيم، بل وليس حكماً مطلقاً في منهجه الصوفي.

غير أن مرجع الغزالي الضخم وهو كتاب إحياء علوم الدين، يُعتبر من أهم المؤثرات التي قعّدت لفقه التصوف بين المسلمين، وتثبيت بعض المفاهيم حول العقل المسلم والخلاف ما بين التفكر والتعبد، الذي لا تزال مآلاته قائمة مؤثرة إلى اليوم، ولذلك كانت رحلتي مع الكتاب متعلقة بهذا الأمر وهو الانعطاف نحو العزلة الشديدة، والمحاسبة الشرسة للذات وتخويفها الدائم، وتعليقها الكلي بأوراد العبادات وصوامع الذكر، دون أي استحضار متوازن لواجبات السعي في الأرض، ومسؤولية الأفراد في هذه الحياة وفقاً لناموس ربهم الذي خلقهم.

والعيش في حالة سماوية، تعزل المسلم عن القيام بواجبات الاستخلاف القرآني المقطوع بها، يعطل العبور إلى فقه العمران الذي يترتب عليه، أولاً صناعة قوة أخلاقية فارقة للمسلمين، في أمور الدنيا التي أقامهم الله فيها ليعمروها وليس ليهجروها، وأن يتقدموا إلى كل ميادين العلوم التي يُدرجها علماؤنا رحمهم الله في مصطلح علم الآلة.

وهو مصطلح يحتاج إلى شرح وتوضيح، فهذه العلوم الكفائية كالطب وغيره، حين يترتب عليها سلامة شعب من الأمة، أو تجنب الضر الواسع من تغير الفَلَك وأمور الطقس، أو تحقيق ما يؤسّس لصناعة تردع العدوان على الأبرياء وتمنع استباحة بيضة الأمة، فإنها تقوم بين المسلمين كعلم فريضة قطعي، ولا بد أن يتحقق فيهم من يؤهل لوعيه، بل والتفوق فيه.

فلو افترضنا وهذا له دلائل من الواقع وتاريخ المسلمين، أن نفراً من أهل العلم فُردت المنابر لهم، وقد استوعبوا ما ورد عن الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، في فضل علوم الشريعة المباشرة، ثم ثابروا في تشجيع الشباب عليها، ثم زاد بهم الحماس وهم يستحضرون فضل علوم الشريعة العليا، من عقيدة وتفسير وفقه واسناد لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، كل ومذهبه العقدي أو الفقهي، فازدروا غيرها من العلوم، ثم حملوا الشباب بالوعظ المغلظ على ترك علوم الآلة، التي تتحقق منها حياة معيشتهم في الزراعة والصناعة.

حتى قّلت أو عُدمت أو كانت قوة التعليم ومستوياته فيها، قاصرةً عن تحقيق متطلبات الدفاع عن مقومات المسلمين وتأمين بلدانهم في الصناعات المتعددة، فما هو مصير هذه البلدان وما الحكم في ذم هذه العلوم، ومنع التعاطي فيها بناءً على الفهم الخاطئ للتفويض الرباني، وترك التسبب العلمي، أو التهوين منها والانقطاع إلى الصوامع للتعبد بدلا من الانشغال بها، فما مصير المسلمين حينها؟

وهل هذا المفهوم هو مفهوم شرعي أصلاً، وهل مصائب الدهر وحوادثه، التي أفرد ذكرها المؤرخون المسلمون، وأجمعوا على فداحتها وعظيم ضررها، تزامنت مع قلة العلماء في طبقات الفقهاء لمذاهب الامة المتعددة، دون أن نعني بذلك تهوين تلك الحشود ولا فضلها، ولا العناية بفقه العبادات الشخصية، فضلاً عن المساهمات التي تحتاج دوماً للتنقيب والتوثيق، في الفقه الحضاري الإسلامي.

لقد كانت حركة العلوم الشرعية حاضرة ان لم تكن مكثفة في زمن تلك الكوارث، كما أن حلقات القرآن الكريم وحفظه، لم تبلغ في تاريخ العالم ما بلغته اليوم، ومع ذالك واقع المسلمين في أسوء انحطاط وغزة تذبح من الوريد إلى الوريد بينهم.

فهل المشكلة في حفظ القرآن؟

كلا..

ولكن المشكلة في تنحية القرآن وتحييده عن علوم الأرض والإنسان، بل اعتبار هذا المنحى مخالفاً لخدمة علوم الشريعة، وقس على ذالك تصدير التصوف الوعظي الحاد والانعزالي القوي، وتقديمه على علوم القرآن في نهضة الإنسان، وليس مقصدنا التصوف الذي يسمو بالروح ويراجع النفس ويلاوم هواها، وانما التصوف السلبي، وهنا المدخل الذي نحاول فيه، فهم أثر إحياء علوم الدين على مسيرة العلم الشرعي والعقلي في تاريخ المسلمين، وعلاقة العزلة الوعظية في تعطيل العمران السياسي، والقيام بمهمة القسط السياسي بين المسلمين أنفسهم، وبينهم وبين غيرهم.

ولا بد هنا من توضيح مفردة العلم وفضله، وإن ثبت يقيناً بأن ما دار على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، خيريته متقدمة، غير أن فضل العلم النافع مطلقاً قائم في الشريعة، بل إن بعض علوم الشريعة والأصل الإيماني لها، قد يحتاج إلى تبيان من علم الفلسفة الإسلامية، ومن دلائلها الهدمية للإلحاد الموثقة للأيمان، بحسب كل حالة وظرف ومعتقدات تعيشها الأمم البشرية والرسالة الإسلامية، خاتمة البلاغ للوحي ولشريعة النبوات.

copy short url   نسخ
06/07/2025
65