+ A
A -
جريدة الوطن

مَن كان يتصوَّر أن المقاومة الفلسطينية ستعود لتصنع حدثاً لا رجعة فيه؟ حدثٌ مُولِّدٌ لتجربة جديدة في المقاومة والصمود؟ من يتصوّر اليوم أن المقاومة لم تتوقّف، وأنها ما زالت تحمل كلّ يوم معطياتٍ تدعو إلى التفكير في مآلات القضية الفلسطينية، وفي مآلات الأوضاع في الشام والعراق والمشرق والمغرب العربيَّين؟

فكيف نفكّر (اليوم والآن) في العلاقة التي رسمها «الطوفان» بالمحيط العربي وبالقِوى الإقليمية والدولية، بل وبمختلف المتغيّرات الجارية بعده وبموازاته في عالمنا؟... إن الأحداث كما تحصل وتتطوّر في التاريخ تتجاوز المخطّطات التي تستكين إلى حسابات مُغلقة وباردة، إذ يُغفل أو يتناسى من يعتقد بذلك أدوار بعض الفاعلين في إمكانية بناء مسارات أخرى، قد تكون في ضوء ما هو سائد اليوم مكلفةً، إلا أنها ترسم ممكنات أخرى للفعل والنظر.

خلخلت مياه «طوفان الأقصى» طقوس اتفاق المبادئ الجامدة والمُجمَّدة، وشكّلت منذ 7 أكتوبر (2023)، نقطةَ عودة حاسمة إلى جذور القضية الفلسطينية وأصولها، أي عودة الفلسطينيين إلى مقاومة الاستعمار الاستيطاني الصهيوني، واخترقت مياه «الطوفان» الحدود التي رسمها الصهاينة، ومن معهم من دهاقنة الغرب الإمبريالي، ورفعت أغطية النسيان التي أصبحت تلفّ اليوم المشروع الوطني الفلسطيني. عادت مع مياه «الطوفان» الجارفة أسئلة وعد بلفور، أسئلة القتل والتهجير، أسئلة النكبة والمخيّمات، وأسئلة الانتفاضات والمؤامرات والخيانات وأحلام الصهاينة. وقد تمظهر كلّ ما أشرنا إليه في صور الحرب القائمة (اليوم) بين الولايات المتحدة وإيران، الحرب التي تقف وراء أهم مظاهر الصراع السياسي الدولي في عالم متغيّر، عالم يصعب فهم ما يجري فيه من حروب في ضوء قواعد حروب القرن الماضي.

تتسم أمور كثيرة، في قلب الصراع الدائر وبمحاذاته، بقليل أو كثير من الغموض، وإن كانت بعض أهداف ما يقع مُعلَنةً من قبيل ضرب المفاعلات النووية الإيرانية، والعديد من أهدافه الأخرى غير مُعلَنة، وتزداد الأمور غموضاً أمام الضغوط التي يمارسها الإعلام المواكب للحرب، فتتضارب وتتقاطع المعطيات التي تعرضها المنابر، لتظلّ في النهاية كثير من الأمور المرتبطة بالحدث وسياقاته غامضةً، وخاضعةً لمؤشّرات وحسابات غير مُقنعة، إلا أن الاحتياطات التي استوعبتها الجمل السابقة لا تجعلنا نُغفل الإشارة أيضاً إلى أن هناك معطيات أخرى في الحرب المشتعلة واضحة ومباشرة، وهي ترتبط بتاريخ وأحداث، وتنفتح في الآن نفسه على مواقف وتصوّرات قابلة للفهم والتعقّل. أمّا ما هو غامض ومُلتبس، فإنه يتطلّب مزيداً من الوقت، ومزيداً من الفرز، للاقتراب من دلالاته ورصد جوانب من أبعاده وتداعياته.

نقف أمام الحرب التي دارت رحاها في 13 يونيو/‏‏ حزيران الماضي، واستمرّت 12 يوماً، أمام بعض جوانب من مفعول «طوفان الأقصى» وتداعياته على الكيان الصهيوني والغرب الإمبريالي والولايات المتحدة، وكلّها تداعيات فجّرها «لطوفان»، وشملتها الروح التي أطلقته وحرصت على إطلاقه، في ظروف غير مواتية، وذلك رغم كلّ المخاطر والصعاب المرتبطة به. نقف أمام الأسماء التي تشير إلى جوانب من المحيط العام للحرب القائمة، فنقترب من إدراك بعض أوجُهه وأبعاده، كما نُعاين جوانب من خلفياته ومن التداعيات الحاصلة اليوم، والتداعيات المحتملة الحصول غداً أو بعد غدٍ، إلا أن كلّ ما ذكرنا من معطيات لا يسمح لنا بالإقرار بمعرفة ما جرى ويجري، ولا معرفة المرامي البعيدة للحرب، التي تواصلت منذ ما يقرب من سنتَين، وحصلت فيها جرائم ومآس كبيرة، والحرب الجديدة التي حصلت منذ أيام.

لا بدّ من التوضيح هنا أن سبب الغموض لا يتعلّق بالضربات الإسرائيلية والأميركية للمفاعلات النووية الإيرانية، بل إنه يرتبط بطبيعة الحرب الجديدة، كما يرتبط بجوانب أخرى من منطق السياسة والحرب في التاريخ. ومن الأمور المُستجدّة والمُعزِّزة لدوائر الغموض المرتبطة بالحرب الجديدة، ما نلاحظه في السنوات الماضية من معطيات، تملأ شبكات التواصل الاجتماعي بحروب أخرى موازية للحرب الفعلية، الأمر الذي يساهم في بناء حروب مركّبة، بعضها يحصل أمامنا في الأرض وبعضها الآخر في السماء، وبتوسّط تقنيات تمنحها مجالاً للحركة، جامعٍ بين الأرض والسماء. فضاء يروم إصابة أهداف محدَّدة، الأمر الذي يحوِّل معارك اليوم معاركَ تلعب فيها تقنيات التواصل الجديدة أدواراً مركَّبةً، الأمر الذي يساهم في توسيع ميادينها وآفاقها. فماذا نجد في منصّات ومواقع الحرب الجارية في الفضاءات الافتراضية؟

لنتّجه صوب تحديد ما يساعد في عمليات الاقتراب من الحرب التي تواصلت بين الكيان الصهيوني والولايات المتحدة من جهة، وإيران من جهة أخرى. أُعلنت أهداف الحرب، وأُعلنت الضربات الموجّهة من أجل تفكيكها، لكن لا أحد يستطيع الجزم بطبيعة النتائج المترتّبة عن الضربات والحرائق التي حصلت. ما العمل إذاً؟... نحن أمام حروب تبدأ وتتوقّف لتظلّ كثير من الأمور غامضةً. حروب تحضر فيها كثير من مظاهر الجنون والهمجية، حروب تكشف كثيراً من تناقضات القانون الدولي ومؤسّسات النظام الدولي، التي نشأت في القرن الماضي، ولم تعد اليوم مناسبةً لمختلف التحوّلات الجارية في عالمنا.كمال عبد اللطيف

كاتب وأكاديميالعربي الجديد

copy short url   نسخ
04/07/2025
15