+ A
A -
حسام شاكر باحث ومؤلف

طفلة تتحرّك وسط جحيم أرضي بحثًا عن ملاذ من الموت حرقًا، وجياع يتكدّسون في حظائر مُسيّجة بانتظار فتات الطعام، ثم يتساقط بعضهم صرعى بنيران المسيّرات القاتلة، ورُضّع يُحمَلون من مراقدهم ذاهلين بعد أن خرّت عليهم السقوف في ساعات الفجر، وطبيبة تتلقّى جثامين أطفالها التسعة الرائعين خلال خدمتها في المستشفى. تجاهلت العديد من منصّات الإعلام والسياسة الأوروبية والغربية هذه الأهوال، كما لو كانت تفاصيل هامشية لا تستحقّ التوقّف عندها أو الإشارة إليها.

ماذا لو كانت «طفلة الحريق» محسوبة على مجتمع الاحتلال في فلسطين؟ أو لو كانت ذات الأعوام الخمسة أوكرانية أو أوروبية غربية مثلًا؟ قد تصير ورد الشيخ خليل حينها «الطفلة الناجية من الجحيم»، فتستحيل أيقونة عالمية تفترش الأغلفة وتُخصِّص الشاشات الغربية لقصّتها أفضل أوقات البثّ، وسيتبارى كبار الساسة على جانبي الأطلسي بالتلفّظ باسمها وذَرْف الدموع لأجلها، قبل أن تستضيفها ملتقيات العالم لالتقاط الصور معها.

وإنْ تبيّن أنها «إسرائيلية» تحديدًا فستُقدّم على أنها «طفلة رائعة نجت بشجاعة من هجوم وحشي مُروِّع»، أو «الشاهدة الصغيرة على الفظاعة الكبرى منذ الهولوكوست»، كما قيل تقريبًا من قبل. ستنتفض ضمائر الساسة والإعلاميين لأجل براءة عينيها، وستحظى بالأغلفة وأبرز التغطيات، وستُعيد صورتُها أهوالَ الحرب العالمية الثانية إلى الأذهان. لكنّ هذا كلّه لم يحصُل مطلقًا للطفلة التي أخبرت من أنقذوها عن مصير أسرتها وذويها: «كلهم استشهدوا».

لم تظهر «ورد» في صدارة الإعلام والسياسة حول العالم، ذلك أنها ببساطة ووضوح فلسطينية عربية مسلمة من قطاع غزة، وفي غزة يُقتل كثير من الأطفال بلا محاسبة دولية، أو يُحرَقون كلّ يوم عبر البثّ المباشر، ولا ترى نخب السياسة والإعلام والثقافة في أمم الصدارة العالمية ما يستحقّ التوقّف عند وَجه من وجوههم أو ذكر اسم من أسمائهم.

لم تلتفت جوقة السياسة والإعلام المتصدِّرة غربيًا إلى البريئة الصغيرة الذاهلة، ولم يشفع لها شعرها الأشقر نسبيًا، فلربما تكفّلت «تحيّزات اللوْن» بتحريك تعاطف الذين يُشغِّلون ضمائرهم انتقائيًا حسب مواصفات الضحية، لكنّ هوية الجاني الموضوع فوق القيم الإنسانية والقانون الدولي حسمت كثيرًا من مواقفهم.

في تفاصيل المشهد المُصوّر أنّ طائرات الاحتلال صبّت يوم الاثنين 26 مايو/ أيار مخزونات اللهب المتفجِّر على مدرسة فهمي الجرجاوي بمدينة غزة المكتظّة بالنازحين، فأحرقت قذائفُها والدة الطفلة ورد وأشقاءها الستّة، وأصيب والدها بجروح خطيرة. تلمّست ورد طريقها بين ألسنة اللهب المتعالية بحثًا عن مخرج، ثمّ التقطتها أذرع الأهالي قبل الهلاك حرقًا في اللحظات الأخيرة.

ليست جريمة القتل الجماعي بالإحراق هي الاستثناء الجوهري في الواقعة، ذلك أنها تتكرّر في قطاع غزة على مدار الساعة، فالامتياز يكمن في مشهد أخّاذ تظهر فيه طفلة تشقّ طريقها بصعوبة بين الأنقاض والجحيم الأرضي بحثًا عن ملاذ، حسب ما وثّقته الكاميرا.

كان المشهد الاستثنائي جديرًا بأغلفة العالم وصدارة تغطياته، لكنّ الفلسطيني تحديدًا «لا يحقّ له»، لأسباب مسكوت عنها، أن يُقتَل حرقًا في عناوين الأخبار أو مشاهدها المُصوّرة. هذا ما يُستنتج من حقيقة أنّ جرائم إحراق المدنيين الفلسطينيين، وجلّهم من الأطفال وأمّهاتهم والمُسنين والمرضى، لم تحظَ بالتفاتة أو ذِكر من منصّات الإعلام ومنابر السياسة في كثير من البلدان الأوروبية والغربية على مدى عشرين شهرًا من الفظائع المنهجية المكثّفة التي اقترفها جيش الاحتلال في قطاع غزة، وهي إن ذُكِرت لا تُوصَف بأنها إحراق بل «موت» أو «سقوط ضحايا» أو نحو ذلك.

إنها لوحة إنسانية مفجعة جدًا كأنها مُستلّة من مشاهد روائية كما في «جحيم» دانتي مثلًا فيما سمّاها «الكوميديا الإلهية».

يختزن مشهد الطفلة ورد وهي تُفلِت من جحيم القصف مخزون التعبير الرمزي عن حشود الأطفال الذين يُحرَقون جماعيًا وتتكرّر وجبات إحراقهم مع أمّهاتهم كلّ يوم. تتفحّم أبدانهم الغضّة إلى درجة لا تُجيز «المعايير المهنية» نشر صورهم «الصادمة» في وسائل الإعلام.

ويبقى الإحراق بقذائف الطائرات والمسيّرات والدبابات واحدًا فقط من أشكال القتل الوحشية الحديثة التي تطارد الأهالي في حفلة الإبادة الجماعية المديدة التي أطلقها جيش الاحتلال بدعم غربي يرفض أربابه النطق بمفردة إبادة، وإن أظهر بعضهم استدراكًا في مواقفهم. فثمة أشلاء مُقطّعة تُنتشل على مدار الساعة، وأخرى تُطبِق عليها أنقاض المباني إلى أن تتحلّل شهرًا بعد شهر بلا سبيل إلى انتشالها. يُقتل الأهالي وبطونهم خاوية بعد أن تفاقمت حرب التجويع الوحشية المشفوعة بالحرمان من الدواء، ومستلزمات العيش الأساسية التي «تُستخدم سلاحًا» بتعبير الهيئات الدولية الأبرز.

ومن مواصفات الحبكة أنّ الفلسطيني «يموت» في عناوين الأخبار ولا يُقتل، كما يأتي في صياغات صحفية مألوفة، ثمّ يصير الموت «قتلًا»، أو «قتلًا مُروِّعًا»؛ إنْ عثرت العناوين على ما قد يمسّ مجتمع الاحتلال والاستيطان من عواقب، وستأتي التعليقات السياسية على تلك المزاعم حينها مشحونة بنبرة عاطفية يُحرَم منها الضحايا الفلسطينيون، وستُروَى في سرديّات التعاطف السخيّة مع «الإسرائيلي الضحية» قصص حياة أشخاص كانت لهم أحلامهم الغامرة وتطلّعاتهم المُلهِمة، وستوصَف مشاعر أمّ نحو مَن فقدت، وكأنّ الأمّهات الفلسطينيات لا مشاعر لهنّ ولا كرامة إنسانية.

وفيرة هي الصور والمقاطع المرئية التي تدفع بها الكاميرات إلى العالم على مدار الساعة من معسكر التجويع والإبادة المسمّى قطاع غزة، في سياق وقائع مشهودة ومبثوثة عن فظائع مؤكّدة يقترفها جيش الاحتلال بذخائر أميركية وأوروبية، وكانت التقاطة مصوّرة واحدة منها مؤهّلة لإطلاق اندفاعة أخلاقية في «المجتمع الدولي» تصدح: كفى لهذه الوحشية.. كلّهم استشهدوا!.الجزيرة نت

copy short url   نسخ
07/06/2025
0