في منعطف جديد شهد السودان خلال الأيام الماضية تصاعدا لافتا في استخدام الطائرات المسيّرة كأداة للهجوم والضغط العسكري في الحرب التي اندلعت في 15 أبريل 2023، وهو تطور ينبئ بحجم الدعم الخارجي الذي تتلقاه مليشيا الدعم السريع المتمردة على الدولة. من نيالا في جنوب دارفور إلى بورتسودان على ساحل البحر الأحمر، بات واضحا أن الحرب لم تعد مقتصرة على الاشتباك الميداني، بل دخلت مرحلة «حرب السماء»، حيث غدت المسيرات الانتحارية والضربات الجوية تسيطر على المشهد القاتم.
ففي مدينة نيالا التي تسيطر عليها المليشيا، تمكن الجيش السوداني من توجيه ضربة نوعية موجعة عبر استهداف طائرة شحن مسجلة في كينيا يقودها طيار من دولة جنوب السودان كانت رابضة في مطار المدينة. نُفذت هذه الضربة ضمن عملية استخباراتية دقيقة، أودت بتدمير الطائرة التي يُعتقد أنها كانت تحمل عتادا عسكريا وتعود بجرحى من المليشيا لنقلهم للعلاج خارج البلاد. وكشفت العملية هشاشة الدفاعات الجوية التي نصبتها المليشيا بدعم خارجي حول المطار، كما أثبتت أن خطوط إمدادها الجوي ليست بمأمن من استهداف الجيش السوداني. لم تكن هذه الضربة نجاحا عسكريا فحسب، بل كانت أيضا إعلانا صريحا بأن سماء السودان لا تزال تحت سيطرة قواته المسلحة، وأن أي محاولات لاستغلال المطارات السودانية لدعم التمرد ستواجه بردعٍ قاطع.
في سياق منفصل، استيقظت مدينة بورتسودان، العاصمة الإدارية المؤقتة، على وقع هجوم بطائرات مسيّرة استهدف قاعدة عثمان دقنة الجوية ومطار بورتسودان الدولي، بالإضافة إلى منشآت مدنية ومستودع بضائع. رغم تمكن الدفاعات الجوية السودانية من إسقاط عدد من المسيّرات، فإن بعضها أصاب مخزنا للذخيرة داخل القاعدة، ما أدى إلى انفجارات دون وقوع خسائر بشرية. هذا الهجوم لم يكن الأول من نوعه، لكنه كان الأخطر من حيث تنوع الطابع التهديدي، وزاد من تعقيد المشهد بعد استهداف مطار كسلا في اليوم ذاته، حيث أصابت مسيّرة خزان وقود دون إصابات.
يُمثل استهداف بورتسودان بالطائرات المسيّرة تطورا بالغ الخطورة في مسار الحرب السودانية، إذ يتجاوز التهديد الداخلي ليهدد الأمن الإقليمي، خاصة أمن البحر الأحمر. فبورتسودان ليست مجرد مدينة ساحلية، بل هي الشريان البحري الرئيس للسودان، حيث يستقبل ميناؤها أكثر من 90 % من واردات البلاد. كما تقع على ممر ملاحي دولي يربط بين البحر المتوسط والمحيط الهندي، تعبره آلاف السفن التجارية سنويا فيما تسعى روسيا لإقامة قاعدة عسكرية هناك.
هذا الميناء، الذي يُطل على أحد أكثر الممرات المائية ازدحاما واستراتيجية في العالم، يشكل أيضا نقطة جذب لمصالح دولية، ويخضع لاهتمام متزايد من قوى إقليمية وأخرى عالمية. أي هجوم على بنيتها التحتية لا يهدد الاقتصاد السوداني فقط، بل قد يُحدث اضطرابا في سلاسل الإمداد الإقليمية، ويُعزز عسكرة البحر الأحمر، بما ينطوي عليه من مخاطر على استقرار المنطقة بأكملها.
يُشير تزامن الهجمات إلى تكتيك جديد يعتمده الطرف المعتدي، يقوم على توسيع نطاق الاستهدافات لجر مناطق آمنة سابقا إلى قلب الصراع، في محاولة واضحة لزعزعة استقرار معاقل الدولة. فبورتسودان، التي تحولت إلى مقر مؤقت للحكومة والسفارات والمنظمات الدولية، لم تعد بمنأى عن نيران الحرب. هذا الهجوم أيضا ينظر له باعتباره سعي من جانب المليشيا إلى تعطيل العمل الإنساني، وعرقلة حركة المنظمات الدولية، ومنع وصول المساعدات والإغاثة الضرورية الملحة. لكن زيارة الجنرال عبد الفتاح البرهان رئيس مجلس السيادة وقائد الجيش للمطار بعد الهجوم حملت رسائل قوية لطمأنة الداخل والخارج، بينما استأنف المطار عملياته خلال ساعات.
من اللافت في هذه الهجمات اعتمادها الرئيس على الطائرات المسيّرة، التي لم تعد أدوات استطلاع فحسب، بل تحولت إلى «قنابل طائرة». فبعضها يُصنع بوسائل بسيطة، بينما يتمتع بعضها الآخر بقدرات استراتيجية ومدى بعيد، ما يضيف بُعدا أكثر تعقيدا للمشهد، خاصة مع صعوبة رصد هذه المسيّرات دون وجود منظومات دفاع جوي متطورة قادرة على إحباط مثل هذه الهجمات.
ويتطلب التصدي لهذه التهديدات أكثر من ردود عسكرية تقليدية؛ بل إعادة نظر في قواعد الاشتباك مع مليشيا الدعم السريع. كما يجب أن يرافق هذا الجهد عمل سياسي وإعلامي متكامل، يشمل توثيق جرائم الحرب، وتحجيم الدعم الخارجي، وتقديم رواية متماسكة تظهر الجيش كقوة مسؤولة تواجه إرهابا عابرا للحدود، لا كطرف في صراع داخلي كما تتعمد بعض القوى الدولية المعادية توصيفه.
في خضم هذا الواقع المعقد، تتضح أن المعركة لا تُخاض في السماء أو الميدان فقط، بل أيضا في أروقة الدبلوماسية وساحات الرأي العام. فكما يُظهر مثال الحرب الأوكرانية-الروسية، التفوق التقليدي قد يمنح ميزة على الأرض، لكن الحرب غير المتكافئة ترفع كلفة الصراع. ورغم فشل أوكرانيا في تغيير ميزان القوى لصالحها، فإنها نجحت في استنزاف روسيا عبر الضربات بالمسيّرات. قد لا يكون للسودان ذات الدعم الغربي، لكن الدرس المستفاد هو أن المواجهة تتطلب استراتيجيات مبتكرة تجمع بين العسكرة والدبلوماسية.