جاءت زيارتي لمعرض الدوحة الدولي في دورته الرابعة والثلاثين تحت شعار «من النقش إلى الكتابة» هذا العام تجربة ثرية، تؤكد على الحراك الثقافي المتنامي الذي تشهده الدولة. ومنذ اللحظات الأولى، كان واضحًا حجم الجهد المبذول في التنظيم الدقيق، وتوزيع الأجنحة بطريقة تسهّل على الزائرين التنقل والاكتشاف، مما يعكس احترافية عالية في إدارة الفعاليات الثقافية الكبرى، وكما يحمل شعار معرض الكتاب «من النقش إلى الكتابة» رسائل قوية تدعو إلى احترام تاريخ الكتابة والتوثيق وتعزيز الدور الحيوي للكتاب في تشكيل مستقبل الأجيال القادمة.
وقد تميز المعرض بتنوع أجنحته وغنى محتواه، حيث برز الجناح السوري كواحد من أبرز المحطات الثقافية والذي تمثل في «سوق الحلبوني» والذي يعتبر أحد أعرق أسواق الكتب في العالم العربي، لما شهده من تنظيم متقن، وديكورات تعكس الهوية السورية الأصيلة، فضلًا عن وفرة وتنوع الكتب المعروضة التي شملت الأدب، التاريخ، الفكر، والفنون، ما أتاح للزوار الاطلاع على زوايا متعددة من الثقافة السورية.
وكان من اللافت هذا العام أن تكون دولة فلسطين ضيف شرف المعرض، في بادرة تحمل دلالات ثقافية وإنسانية عميقة. فقد أضفى الحضور الفلسطيني قيمة نوعية للفعالية من خلال مشاركات أدبية وفنية أثرت المشهد وأتاحت للزوار فرصة التفاعل مع التراث الفلسطيني الغني.
كما تجدر الإشارة إلى المشاركة الواسعة من قبل عدد كبير من الدول عبر أجنحة متميزة عكست تنوع الثقافات والإنتاج المعرفي، ما أضفى على المعرض طابعًا دوليًا يثري تجربة الزائر ويعزز من الحوار الثقافي العالمي. ولم تقتصر المشاركة على دور النشر فقط، بل امتدت لتشمل الوزارات والمؤسسات الحكومية الرئيسية في الدولة، والتي عرضت إصداراتها وإنتاجها المعرفي المتخصص، في تعاون مثمر يؤكد أهمية تكامل الجهود الوطنية في خدمة الثقافة. وقد شهد المعرض كذلك تنظيم العديد من الندوات والورش الثقافية المتخصصة التي استقطبت نخبة من المفكرين والمبدعين، وأسهمت في خلق مساحة للحوار وتبادل المعرفة. ولأن الثقافة تبدأ من الطفولة، كان للأطفال نصيب جميل من الفعاليات الموجهة التي جمعت بين الترفيه والتعليم، مما يعزز من حبهم للقراءة والكتاب منذ سن مبكرة.
وفي قلب المعرض، استوقفني التصميم المبتكر لركن وزارة الثقافة، الذي جاء على شكل أرفف كتب أنيقة تُحيط بها إصدارات الوزارة، مثل مجلة «الدوحة» التي تعود للصدور بحله جديدة، إلى جانب مجموعة من الإصدارات القديمة والجديدة لدار الكتب القطرية. وقد أضفى هذا الركن طابعًا جماليًا وثقافيًا فريدًا، لا سيما مع تصميم الهدايا التذكارية التي عكست اهتمامًا بالتفاصيل وحرصًا على تقديم الثقافة في قالب إبداعي جذاب.
كما أسعدني إدخال تقنيات الذكاء الاصطناعي في المعرض، سواء من خلال الأنشطة التفاعلية أو الوسائط الرقمية، مما يعكس توجهًا استراتيجيًا نحو دمج التكنولوجيا بالثقافة. ومن المتوقع أن يكون للذكاء الاصطناعي والتقنيات الحديثة دور محوري في نسخة المعرض القادمة، بما يواكب التحولات العالمية ويعزز من تجربة الزائر.
وفي ختام هذه الزيارة الملهمة، لا يسعني إلا أن أشيد بالقيادات الشابة التي تقود العمل الثقافي بروح متجددة وطموحة، الذي أسهم بشكل كبير في تطوير فعاليات وزارة الثقافة وتنويعها. وقد كان لاستغلال «درب الساعي» في تنظيم الفعاليات الرمضانية، واستضافة الأسابيع الثقافية لعدد من الدول، أثر واضح في تعزيز مكانة الثقافة كركيزة أساسية من ركائز التنمية الوطنية.
إن معرض الكتاب لم يعد مجرد تظاهرة ثقافية سنوية، بل بات منصة حضارية تعكس هوية الدولة، وتجمع بين الماضي العريق والمستقبل المشرق.
بقلم - آمنة العبيدلي