في ظل التحولات الاقتصادية والاجتماعية المتسارعة، يبرز تحدي فجوة الكفاءات الوطنية في سوق العمل القطري كأحد أبرز الملفات التي تتطلب معالجة جذرية. رغم الجهود الحكومية في التوظيف والتدريب، تبقى الأسئلة قائمة: لماذا لا تزال الفجوة قائمة؟ وما العوامل الحقيقية وراءها؟ وكيف يمكن معالجتها بمنهجية استراتيجية مستدامة؟
في هذا المقال، نسلط الضوء على الجوانب التالية: فجوة الكفاءات: واقع لا يمكن تجاهله، التعليم المستمر: رأس المال الحقيقي في سوق متغيّر، التقطير بين الطموح والواقع، القطاع الخاص: التحدي في الداخل لا في الدعم، استراتيجية وطنية شاملة: من التوظيف إلى التمكين، التغيير الثقافي: أساس النجاح، توصيات استراتيجية لإغلاق الفجوة، فجوة الكفاءات: واقع لا يمكن تجاهله.
وفي ظل التحولات المتسارعة التي يشهدها الاقتصاد القطري، يظل ملف الكفاءات الوطنية أحد أكبر التحديات التي تواجه سوق العمل. المفارقة اللافتة هي أن نسبة التعليم بين الشباب القطري مرتفعة، ومع ذلك تستمر الشكاوى من نقص الكفاءات الجاهزة فعلياً للعمل. ليست المشكلة في عدد الخريجين، بل في ملاءمة مخرجات التعليم مع احتياجات السوق. هناك فجوة واضحة بين ما نتعلمه وبين ما نُطلب لتقديمه. هذه الفجوة، إذا استمرت، قد تتحول إلى خطر اقتصادي، لأنها تعني الاعتماد المستمر على الكفاءات الأجنبية، ما يعيق التوطين الفعلي للوظائف ويؤخر بناء اقتصاد قائم على رأسمال بشري وطني قوي.
التعليم المستمر
وفي عالم يتغير بوتيرة غير مسبوقة، لم يعد الحصول على شهادة جامعية كافياً لضمان كفاءة الفرد أو استدامة موقعه في سوق العمل. التعليم المستمر لم يعد خياراً، بل ضرورة استراتيجية. وهو ما يجب أن نؤسس له على مستوى الأفراد، المؤسسات، وصنّاع السياسات. والتعليم المستمر لا يعني مجرد حضور ورشة عمل أو نيل شهادة مهنية إضافية، بل هو منظومة متكاملة تهدف إلى رفع جاهزية الموظف ومهاراته بشكل يتماشى مع التغير السريع في التكنولوجيا، متطلبات السوق، وطبيعة الوظائف نفسها. لكن التحدي الأكبر اليوم ليس في غياب المبادرات، بل في نوعيتها وطريقة تنفيذها. كثير من برامج التدريب تُقدم بصيغة تقليدية، غير متكاملة، وأحياناً من دون قياس للعائد الفعلي منها. لا توجد آلية وطنية تضمن أن هذه البرامج تعالج فعلاً الفجوات الموجودة، أو أنها مرتبطة بخطط تطوير مهني واضحة داخل المؤسسات. ما نحتاجه هو هيكلة جديدة للتعليم المستمر، تشمل: -مواءمة البرامج التدريبية مع المهارات الفعلية المطلوبة حسب القطاع. -اشتراط ارتباط كل تدريب بخطة تطوير وظيفي للموظف. -تفعيل الرقابة النوعية على الجهات المقدّمة للتدريب. -إدماج التعليم المستمر كجزء من تقييم الأداء الوظيفي.
ورغم السياسات الرسمية الهادفة إلى رفع نسب التقطير في مختلف القطاعات، إلا أن الواقع يكشف عن فجوة أخرى: التقطير الكمي تحقق، لكن التقطير النوعي لا يزال متأخراً. وجود الموظف القطري في المؤسسات لا يعني بالضرورة تمكينه. نرى أحياناً قطريين في مواقع العمل، لكن دون صلاحيات حقيقية، أو دون مسارات واضحة للتطور المهني. التمكين لا يعني فقط التوظيف، بل يعني التدريب المستمر، إشراكهم في اتخاذ القرار، وتوفير بيئة تنافسية تشجع على الإبداع والنمو.
الكفاءات الوطنية والقطاع الخاص
ولا يعود عزوف الكفاءات الوطنية عن القطاع الخاص إلى تقصير من الدولة، بل إلى خلل داخلي في المنظومة التشغيلية لبعض الشركات. الحكومة وفرت دعماً سخياً لتشجيع الخريجين على الالتحاق بالقطاع الخاص، سواء عبر برامج التدريب، أو الحوافز المالية المباشرة، أو من خلال مبادرات وطنية تسعى لرفع نسب التوظيف. لكن المشكلة لا تكمن هنا. ما يحتاج إلى مراجعة فعلية هو اللوائح الداخلية والإجراءات التنظيمية داخل عدد من الشركات، خاصة شبه الحكومية، والتي رغم ما تحققه من أرباح ضخمة، لا تزال تدار بعقلية بيروقراطية لا تشجع على التمكين أو المنافسة. أما القطاع الخاص التقليدي، فيواجه تحدياً مختلفاً، وهو ضعف القدرة على منافسة الرواتب والمزايا التي تقدمها الدولة أو الشركات الكبرى. في بيئة كهذه، من الطبيعي أن يختار الخريج الوظيفة الأكثر أماناً واستقراراً، حتى لو كانت أقل تحفيزاً مهنياً.
والحل لا يكون برد الفعل أو عبر قرارات متفرقة، بل في وضع استراتيجية وطنية شاملة لإدارة الكفاءات. تبدأ هذه الاستراتيجية من التعليم المبكر، وتشمل التوجيه المهني في المدارس، وتصميم برامج جامعية مرنة، والتدريب المهني التخصصي، وتستمر بعد التوظيف عبر أنظمة تقييم وتطوير مستمر. من الضروري أيضاً أن يتم إنشاء قاعدة بيانات وطنية حية، تُحدّث باستمرار، توضح التخصصات المطلوبة، المهارات المطلوبة، ومجالات النمو المستقبلية، بحيث تكون مرجعاً للطلبة وصانعي القرار والقطاع الخاص على حد سواء.
ولا يكتمل أي إصلاح دون مراجعة الثقافة العامة تجاه العمل. يجب أن ننتقل من ثقافة «البحث عن وظيفة حكومية» إلى ثقافة «صناعة قيمة». يجب أن يُغرس في الأجيال الجديدة أن العمل ليس مجرد راتب، بل مسؤولية، وتأثير، وفرصة للنمو الشخصي والوطني. دولة قطر تملك كل المقومات لبناء سوق عمل تنافسي ومستدام: اقتصاد قوي، بنية تحتية ممتازة، وموارد بشرية واعدة. المطلوب هو الربط الذكي بين هذه العناصر بخطة طويلة المدى، يقودها ويدعمها القطاعان العام والخاص، وتُراقب نتائجها بشكل شفاف.
توصيات استراتيجية
وهناك مجموعة من التوصيات الاستراتيجية لسد فجوة الكفاءات الوطنية في سوق العمل القطري وهي إنشاء وحدة وطنية لتخطيط الكفاءات المستقبلية، إلزام الشركات شبه الحكومية بخطط تمكين نوعي، إنشاء «مرصد الرواتب» في القطاع الخاص، تفعيل الحوافز المرتبطة بالأداء للشركات، ربط المناهج الجامعية بتقييم سوق العمل ربع السنوي، مراجعة الهياكل الإدارية والإجراءات التنظيمية داخلياً، هيكلة التعليم المستمر وتوحيد معاييره الوطنية، كما أن إصلاح سوق العمل لا يتحقق بالشعارات ولا بالإجراءات المتفرقة، بل برؤية متكاملة تبدأ من التعليم وتنتهي بتمكين حقيقي داخل المؤسسات. ما نشهده اليوم ليس نقصاً في المبادرات، بل في التنسيق، في القياس، وفي الجرأة على إعادة تشكيل الأنظمة من الداخل. المطلوب ليس فقط توفير وظائف للمواطنين، بل بناء مسار مهني يُنتج قيمة، ويصنع قادة، ويعزز القدرة التنافسية للدولة.
التعليم المستمر، الحوكمة داخل الشركات، وربط الحوافز بالنتائج الحقيقية -النسب الشكلية- هي مفاتيح المرحلة القادمة.
بقلم: د. بثينة حسن الأنصاري خبيرة تطوير التخطيط الاستراتيجي والموارد البشرية