البشر يتغيرون كما يتغير الليل بالنهار. في كل مرة تختلط بالناس، ترى صورًا جديدة للأذى؛ بعضها مباشر، وبعضها الآخر متخفٍّ وراء ابتسامات ودية أو كلمات لطيفة تحمل في طياتها معنى مختلفًا. إن أقسى أنواع الأذى لا يكون صريحًا، بل يأتي بصور غير متوقعة؛ قد يكون في التجاهل، أو في البرود، أو حتى في الاهتمام المشروط. كلما تعاملت مع الناس، أدركت أن احترامهم لك ليس هدية مجانية، بل هو استحقاق يجب أن تثبت أنك جدير به. لا يكفي أن تكون شخصًا جيدًا لتنال الاحترام، بل يجب أن تكون قويًا بما يكفي لترفض الاستهانة بك وتحمي نفسك من عبث الأهواء البشرية.
خذ مثلًا قصة يوسف -عليه السلام- الذي رأى في إخوته سندًا وحماية، لكنه تفاجأ بأن الغيرة حولتهم إلى أعداء سعوا إلى إبعاده. حين تُدرك هذه الحقيقة، تتوقف عن رؤية العلاقات بمنظور ثابت؛ لا أحد يبقى كما هو، والقلوب تتغير بلا مقدمات. لذلك، لا يجب أن تبني حياتك على افتراض أن الآخرين سيظلون كما عهدتهم، لأن التجربة تثبت أنك قد تخسر أقرب الناس إليك لأسباب لم تتوقعها يومًا.
لكن ماذا يحدث حين تبتعد عن الناس قليلًا؟ في تلك اللحظة التي تختار فيها العزلة، لا لأنك تكره العالم، ولكن لأنك تحتاج إلى فهم نفسك، تجد أنك ترى الأمور بوضوح أكثر. تدرك أن بعض الأشخاص كانوا عبئًا على روحك دون أن تشعر، وأن بعضهم كانوا مصدرًا للراحة دون أن يطالبوا بشيء. فجأة، يصبح لديك القدرة على التمييز بين من يستحق أن يكون في حياتك، ومن يجب أن تغلق الباب أمامه دون ندم.
العزلة ليست انعزالًا عن الحياة، بل هي مساحة لفهمها بشكل أعمق. ربما تبتعد قليلًا، فتكتشف أنك كنت تعيش وسط صخب لا يسمح لك بأن تسمع نفسك. ربما تجد أن بعض مخاوفك لم تكن نابعة منك، بل كانت انعكاسًا لما فرضه عليك الآخرون. ربما تجد أن سعادتك لا تعتمد على وجود أشخاص معينين، بل على مدى انسجامك مع ذاتك.
وهنا يأتي السؤال الحقيقي: هل أنت مستعد لتواجه هذه الحقيقة عندما تتضح أمامك دون مجاملات؟ حين تدرك أن بعض العلاقات كانت تجلب لك الأذى أكثر مما تمنحك الأمان، وأن الاحترام لا يُمنح بل يُنتزع، وأن الناس ليسوا كما نظنهم دائمًا. هذه اللحظة هي الاختبار الحقيقي الذي يحدد كيف ستعيش حياتك: هل ستظل تحاول إرضاء الآخرين حتى عندما يتبدلون؟ أم أنك ستختار نفسك دون خوف؟
ومع مرور الأيام، تبدأ في رؤية نمط متكرر؛ العلاقات تتغير، ليس لأنك ارتكبت خطأ، بل لأن الحياة تجعل البعض يعيد ترتيب أولوياته. قد تظن أنك تعرف إنسانًا جيدًا، ولكن سرعان ما تكتشف أنه لا يعرف نفسه حتى. كلما فهمت هذه الحقيقة، قلّت صدماتك تجاه تصرفات البشر. لا تتفاجأ بمن يختفي فجأة، أو بمن يغيّر موقفه دون مبرر، بل تعلم أن هذا جزء من طبيعة الحياة.
إن أكثر الأمور نضجًا أن تصل إلى مرحلة لا تخذلك فيها تصرفات الناس، لأنك تعلم أن الاستقرار الحقيقي لا ينبع منهم، بل ينبع من داخلك. هنا فقط تدرك أنك كنت تبحث عن إجابات في أماكن خاطئة، بينما الحقيقة كانت داخلك طوال الوقت.