منذ فجر التاريخ حتى يومنا هذا، مرت البشرية بتطورات مدهشة ابتداء من عصور البدائية، وصولاً إلى المدنية الحديثة حيث تقدمنا حضارياً واقتصادياً وتكنولوجيا، وبتنا نعيش حياة تختلف كلياً عن حياة أجدادنا الأوائل قلباً وقالباً.
اليوم، لو عاد أحد القدماء إلى الوجود من جديد، ورأى ما نحن فيه من تطور فلن يصدق ما يرى، وسيخرّ مصعوقاً كأنما يلوح الفردوس أمام ناظريه، أو كأنه عاد إلى كوكب آخر غير كوكب الأرض!
لهذا المستوى المذهل وصلنا عبر قرون طويلة من الكفاح وسبر أغوار الكون، إلى حد أن الكثيرين منا باتوا يصدقون إمكانية تحقيق أي شيء يفكر فيه الإنسان، لأننا بالفعل حققنا كثيراً مما تخيلناه وحلمنا به، بل وكثيراً مما ظنناه لعصور مديدة ضرباً من ضروب الخيال العلمي والفانتازيا والهرطقة!
عندما قال أبو الفلسفة «سقراط» عبارته الشهيرة: «أعلم أنني لا أعرف شيئاً»، فقد صدق هذا الفيلسوف العظيم الذي عاش في عصر ما قبل الميلاد، وجانب الصواب بحكمته التي بقيت حاضرة حتى وقتنا الحالي.
إلى اليوم نتغنى بهذه المقولة الجميلة، ونضعها كبرهان قاطع في وجه كل من يدعي كمال المعرفة. إلى هذه اللحظة، يمكنك أن تستشهد بقول سقراط وكل حكيم على مر الأزمنة أكد أن العالِم الحقيقي هو الذي يعترف بقصور معرفته، وبأنه ما يزال تلميذاً يحبو في مدرسة الكون الواسعة.
لهذا، تسقط صفة العلم والحكمة عن أي شخص يدعي معرفته بكل شيء، ويتبجح بعلم تعلمه، أو ينظر إلى الناس باستصغار على اعتبار أنه وصل إلى مقام أعلى منهم فهماً ومعرفة، وهو في الحقيقة أدنى من أدنى شخص؛ لأن التكبر والحكمة لا يجتمعان، ومتى ادعيت أنك تعرف فأنت في الواقع لا تعرف شيئاً، بل غرورك هو الذي يجعلك تتصور أنك تعرف!
تعلم قول لا أدري، فإنك إن قلت لا أدري علموك حتى تدري، وإن قلت أدري سألوك حتى لا تدري. لا وجود لإنسان ألمّ بكل شيء، ولا عرف كل شيء عن شيء، بل جميعنا نقضي حياتنا بأكملها لنتعلم قليلاً من الحياة، ولنغرف قطرة من محيط الكون الرحب، ونحبو بضع خطوات على بساط الوجود دون أن نصل إلى خط النهاية.
إياك والتكبر، والظن أنك أعلم الناس مهما اكتسبت من معرفة وعلم. إن الغرور يمنع صاحبه من رؤية الحقيقية، ويعمي بصيرته. لا تتفتّح الحكمة إلا لدى من يقر بأنه لا يعرف شيئاً حتى عن نفسه. فيك انطوى العالم الأكبر، وكيانك لوحده يجمع أسراراً لم تكتشف كلها بعد، فكيف لك أن تسدل الستار عن أسرار الكون بأسره؟!
كن متواضعاً على الدوام، مخلصاً في البحث عن الحقيقة والمعرفة، ومحباً للعلم الذي تستزيد منه كل يوم حتى آخر الدهر. إن المتعة ليست في الوصول إلى النهاية، بل في الرحلة نفسها. وإلى اللحظة لم يصل شخص على كوكبنا الجميل أصلاً إلى خط النهاية، لأننا يجب أن نقضي حياتنا في البحث والتنقيب والتعلم. أما لو وصلنا إلى النهاية فلن يعود لأي شيء طعم أو مغزى، وستنعدم رغبتنا في الارتقاء وتحقيق المزيد من الإنجازات، وسيغزو الضجر قلوبنا فيحيل دوافعنا إلى غبار منثور.
جمال الكون الآسر يكمن في التعلم المستمر، ومحاولة كشف الستار عن بعض الأسرار والخفايا. أما روعة الحياة فلا تكون إلا بالتجربة والخطأ والاستفادة من دروس الماضي لصناعة مستقبل أفضل، وهكذا دواليك.
استمتع بالرحلة، وتعلم كل يوم شيئاً جديداً، ولا تتبجح بالمعرفة بل قل لا أدري حتى تتفتح مداركك لاستقبال المزيد من الحكمة والمعرفة.
Instagram: hamadaltamimiii