+ A
A -

وأنت تطوف بمتاحف أوروبا والرحلة من الحرب إلى التنوير يعود لك السؤال: أين يقف مسلمو الغرب اليوم ما بين التاريخ والمستجد السياسي، الذي سميناه سابقاً الانقلاب الاجتماعي، أين هو العقل المسلم المعاصر من وعي التاريخ وفهم تجارب الأمم ومآلاتها، ثم واقع الصراع الغربي-الغربي، هل هو صراع حقيقي، هل له جذور في التاريخ، هل يمكن أن يعود، ويسقط السلم الأهلي العام في أوروبا؟

يبدو الأمر بعيداً في الوهلة الأولى، وحتى فُرص استعادة العملية السياسية من طغيان اليمين المتطرف، ممكن جداً وهناك شواهد عليها، وأنها قد تكون دورة حكم ثم تنتهي بردة فعل شرسة لصالح اليسار (المعتدل)، هذا خيار مطروح، لكن ليس بالضرورة أن يكون المآل الوحيد، ولا يوجد في التاريخ ما يضمن هذا الثبات والتطور لمشروع الاتحاد الأوروبي ذاته، ألم تخرج بريطانيا (العظمى) منه!

فلننظر إلى الناحية الأخرى من الغرب، حيث جاء هجوم ترامب على الدول الأوربية في قضية أوكرانيا، ودفع كييف إلى سوق المصالح دون أي مقدمات، ثم تهديد شركائه الأوروبيين في الناتو بتحجيم مشاركة واشنطن في الدفاع عنهم، إلا بمقابل مادي، في ذات التوقيت الذي طرد فيه زيلينسكي من البيت الأبيض، قبل أن يسمح له بالعودة للتفاوض بعد الخضوع التام، ومع كل هذه التوجهات، تجد بالمقابل صدى ارتدادياً لروح أفكار ترامب، وليس لمشاريعه بالضرورة، في أحزاب اليمين المتطرف الزاحفة للحكم في أوروبا ذاتها.

تربطني هذه الصورة بأول محطة في بروكسل، في المتحف الذي أقيم في واترلو، عند جثامين جيش نابليون، في آخر حرب قومية خاضها الحلفاء في الصراع الأوروبي الداخلي، المثقل بالمجازر، فمن هو الغرب الذي يتعامل معه مسلموه اليوم، وكيف تُرسم رؤية التفكير الإستراتيجي فيه لمواطنة تحمي حقوقهم، وتدمجهم في الخيرية الاجتماعية، لصالح المشترك الإنساني، وتبني لهم مساراً يخترق قرار العزل الشرس الذي يُخطّط له المتطرفون.

هل المسلمون في الغرب هم الخطر الداهم، أم أن الصراع الغربي-الغربي ذاته خطر قائم، ألم يُبعثر ترامب أمن أوروبا أمام روسيا، في توقيت دقيق حين ألقى بكييف إلى الصحراء عاريةً، ليفرض مشروعه السياسي في وقف الحرب، الذي يقوم على حصيلة خزينة أميركا أولاً، قبل أي ملف آخر أكان للناتو أم غيرهم، حتى أن الرعب الذي وصل للعديد من الدول في العالم الجنوبي، بات يفكر بجدية بتهيئة (الجزية) التي يجب أن يقدمها للرجل البرتقالي ليبقى في عالمه، قبل أن تسحقه أميركا العظيمة.

وقعت معركة واترلو في 1815، اتحدت فيها عدة دول غربية، وكانت أمماً منفصلة في عدة ممالك، بقيادة إنجلترا وهولندا، لمواجهة فرنسا (العظيمة) الزاحفة لضم أوروبا تحت سيادتها، كانت أحلام نابليون جامحة في تلك اللحظة، ولم توقفه إلا هزيمة الحرب، وكُسر جيشه ودفن رفاة جنوده تحت التلة الكبيرة في واترلو.

ورغم أن المتحف يستدعي قصة انطلاق التنوير الغربي، ويضع مقابل المقصلة التي سادت في أوروبا مؤلفات الفلاسفة الغربيين، التي أُسست عليها نهضة أوروبا الحديثة، غير أن هذه القصة ليست دقيقة، فعام 1815 لم ينه الصراع الغربي، ولكنه عاد في الحرب العالمية الأولى 1914 ثم 1939، تحت جموح الفوهرر هتلر، أبيد فيها عشرات الملايين من مواطني الدول الغربية، رغم أن عجلة التنوير يدون تاريخها 1740، ومع ذلك لم يقف الصراع، وكانت الفلسفة النازية شريكاً في الدفع لثقافة الصراع، أي أن الفلسفة وجدل التنوير، كان مشتبكاً بسؤال التقدم، والذي تحول إلى أقانيم سياسية مهدت لحركة الحرب العالمية.

جدل التقدم الذي تواطأ عليه أركان مهمة في تاريخ الفلسفة الغربية، ومُيّزت شعوب أوروبا به، ليواجه العالم الجنوبي حروب إبادة قادها العهد الأوروبي التنويري، ونموذج غزة هو ضمن سياقها، خرجت به اوروبا إلى التحالف الأخير لشعوبها المتحدة، في سبيل صناعة حياة حقوقية وسياسية أفضل للأجيال الجديدة، وبالفعل سادت قيم دستورية وحقوقية مهمة للإنسان الغربي.

غير أن عودة اليمين المتطرف، في نظريات مستنسخة من النازية السوداء، يعود اليوم من بوابات الديمقراطية ذاتها، فهل أزمة الغرب أزمة مهاجرين فروا من مآلات الحروب والأنظمة التي فرضتها عليهم مصالح التفوق للغرب (العظيم)، ام أنه أزمة ذاتٍ قومية نجحت في إدراك جانب من القانون الاجتماعي، لكنها تاهت فيه أخلاقياً؟

فأين السؤال العميق هنا وأين يرتد على خطاب المسلمين في كفاح المواطنة، وهل جواب الخوف القائم في كل ركن من الغرب عن حضور المسلمين، بسبب الهجرة، أم بسبب الفراغ الروحي والأخلاقي، فتندفع المجتمعات لقوميتها لتتصارع على المادة، التي كانت ولا تزال في عقل الغرب الحديث مرجع الإنسان.

فهل يملك مسلمو الغرب معادلة مختلفة؟

copy short url   نسخ
13/04/2025
40