تبوأت الولايات المتحدة الأميركية مكانتها كقائد للنظام العالمي أحادي القطب منذ أكثر من ثلاثة عقود، نظراً لأنها كانت تقود أولاً المعسكر الغربي الرأسمالي خلال عقود الحرب الباردة، ثم استناداً إلى قوتها العسكرية التي تُعد أكبر قوة في العالم، تليها روسيا والصين، وثانياً لكونها تملك أكبر اقتصاد في العالم، بناتج محلي إجمالي يتجاوز الثلاثين تريليون دولار سنوياً.
والحقيقة أن العالم كان خلال الحرب الباردة، قد اعتاد على حالة التوازن بين المعسكرين، ليس لسبب انتصارهما معاً، نقصد الاتحاد السوفياتي الذي كانت نواته روسيا، والولايات المتحدة، على دولتي المحور، ألمانيا واليابان، في الحرب العالمية الثانية وحسب، بل لامتلاكهما القنابل النووية، ثم دخولهما في سباق تسلح وصل ذروته في عقد الثمانينيات من القرن الماضي بحرب النجوم، حالة التوازن تلك أجبرت المعسكرين على تجنب الدخول في حرب عالمية ثالثة، ومن ثم اللجوء إلى المنظمات الدولية لحل الخلافات والصراعات بينهما، إن كانت تلك المنضوية ضمن إطار الأمم المتحدة، أو أية منظمات أخرى من مثل منظمة التجارة العالمية.
الولايات المتحدة، أدركت وبعد أكثر من عقدين من الزمان انشغلت خلالهما في حروب اقليمية خاضتها، إن كان في شرق أوروبا في مواجهة الصرب، أو في الشرق الأوسط، أدركت أميركا بأنها قد فقدت مكانتها كقطب عالمي وحيد، أو أنها على الأقل باتت أمام منافسين أو أنداد أو حتى أقطاب، يمتلكون القوة العسكرية المنافسة، والقوة الاقتصادية، لذلك بدأت تفكر جدياً في كيفية اعادة الأمور إلى ما كانت عليه سابقاً، وهنا وقع خلاف داخلي بين الحزبين الجمهوري والديمقراطي، لجهة أي المنافسين تقوم الولايات المتحدة، بتحطيمه أولاً، الصين التي تمثل المنافس الاقتصادي بناتج محلي اجمالي يقترب من 20 تريليون دولار سنوياً، مقابل أكثر من 30 تريليون دولار ناتج اجمالي محلي أميركي، أم روسيا بقوة عسكرية، يتقدمها السلاح النووي بنحو سبعة آلاف قنبلة نووية، مقابل نفس العدد تقريبا مما تمتلكه الولايات المتحدة من القنابل النووية ؟
وبعد معالجات عسكرية أو سلمية جرت خلال ولايات بيل كلينتون، جورج بوش الابن، وباراك أوباما، كانت ولايتا دونالد ترامب وجو بايدن، تتمحوران حول مواجهة الصين كمنافس اقتصادي، وروسيا كمنافس سياسي/عسكري، وبعد أن تورط بايدن في الحرب الروسية الأوكرانية، جاء ترامب ليغلق بوابة تلك الحرب، حتى يتفرغ ويتابع ما كان قد بدأه من حرب تجارية مع الصين في ولايته الأولى ما بين عامي 2016-2020، حين فرض تعرفة جمركية على المستورد من بضائع الصين بنسبة 20 %.
ترامب هذه المرة أعلن يوم التحرير، أي تحرير الاقتصاد الأميركي من نظام التجارة العالمية، بفرض رسوم جمركية على نحو 180 دولة، ويعود ذلك لكون الاقتصاد الأميركي متداخل مع اقتصاديات كل دول العالم عبر التبادل التجاري، وهذه ميزة للاقتصاد الأميركي، كما أن هناك ميزة أخرى تتمثل في القوة الشرائية، حيث يبلغ متوسط دخل الفرد الأميركي أقل قليلا من مائة ألف دولار سنويا، وبالمقارنة مع متوسط دخل الفرد الصيني، الذي يبلغ 13 ألف دولار، يمكن تفسير حجم الاستيراد الأميركي من الخارج الذي لا يقتصر على الصين فقط.
ما يدفع الولايات المتحدة على الدخول في حرب تجارية مع العالم بأسره تقريبا، هو عجز ميزانها التجاري الذي يتجاوز تريليون دولار وبنسبة تفوق 12 %، وحيث إن ترامب التزم أمام الناخب الأميركي بتخفيض هذا العجز واعادة العظمة لأميركا، فإنه سارع لاتخاذ قراراته على المستويين الداخلي، بتكليف ايلون ماسك بمحاربة البيروقراطية الفدرالية، وعلى المستوى الخارجي، بفرض التعرفة الجمركية الجديدة، بالنسب التي أعلنها يوم الأربعاء الماضي، وذلك للحد من استيراد البضائع من الخارج، وتشجيع الصناعات المحلية البديلة.
السؤال هنا هو: هل تحركت الولايات المتحدة على هذا الصعيد متأخرة؟ ذلك أن قرارات ترامب الجمركية قوبلت بقرارات مماثلة من كل دول العالم، في المقدمة الصين ردت بفرض ضريبة جمركية بنسبة 34 % على البضائع الأميركية، فيما واجهت بعض الدول السياسة الاقتصادية الأميركية الهادفة لفرض الهيمنة الاقتصادية بتشكيل كتل اقتصادية، أهمها بتقديرنا ما أعلنته الصين مع اليابان وكوريا الجنوبية وهي دول متجاورة جغرافيا وقوى عظمى اقتصاديا.
كذلك لابد من الإشارة إلى أن تأثيرات قرارات ترامب لا تقتصر على رد الآخرين بفرض رسوم مماثلة على البضائع الأميركية، لأن أميركا باتت تستورد أكثر مما تصدر، وهذا ما يفسر اختلال ميزان التبادل التجاري مع الصين مثلا بقيمة تقترب من 300 مليار دولار سنويا، فقرارات ترامب تعود بالأثر السلبي على اقتصاد بلاده، خاصة في المديين المتوسط والبعيد، حين تظهر آثار ذلك في تضخم داخلي، وفي ارتفاع أثمان السلع المستوردة، لأنه ليس سهلاً أبداً إنتاج البدائل محلياً بالسرعة الكافية، كما أن إجراءات الحرب التجارية تشمل أيضا المواد الخام، التي تنتج عنها السلع المستهلكة، لذلك فإن مغامرة ترامب محفوفة بالمخاطر في أحسن أحوالها، وليست مضمونة النتائج.
كل ذلك يترافق مع إعلانات استعمارية لترامب تجاه قناة بنما وكندا وغرينلاند، بنفس الدافع الاقتصادي، حيث بإمكان الاقتصاد الكندي في حالة ضمه لأميركا، وما لدى غرينلاند من معادن ثمينة، وما تدره قناة بنما من دخل، أن يبقي الاقتصاد الأميركي الكسول، غير الناجم عن إنتاج السلع ولعقود قادمة، سيداً على العالم.الأيام الفلسطينية