+ A
A -
خولة مرتضوي
إعلامية وباحثة أكاديمية- جامعة قطر
هذا العالم المعاصر يشهد كل يوم مستجدات وتحولات عميقة، خاصة بعد موجة الحداثة وما بعد الحداثة، وما أفرزته من تداعيات في شتى المجالات، وعلى رأسها المجال الديني. فكما تعلم، قارئي العزيز، فإن «القرية الكونية» على حد وصف عالم الاتصال الكندي مارشال ماكلوهان Marshall McLuhan التي جاءت نتيجة الانفجار التكنولوجي المتنامي في عالم الاتصال، تحولت اليوم إلى «بيت كوني كبير» يضم المختلفين جميعا في رقعة صغيرة متقاربة، فالتطور التكنولوجي الهائل الذي نتلمس مظاهره يوما بعد يوم، جعل مسافات الشقة المعرفية والاتصالية، عند الجماهير، معدومة إلى حد كبير، الأمر الذي أكسب وسائل الإعلام الجماهيرية، التقليدية منها والجديدة، أهمية أكبر، وذلك لاعتبارها مصدرا أساسيا لتشكيل وتعزيز الثقافة والوعي، علاوة على دورها المتعاظم في نقل وتبادل الأخبار والمعلومات، إضافة إلى التسلية والترفيه.
ويعتبر موضوع تشكيل وتعزيز الوعي الإنساني من أهم الوظائف التي تحققها وسائل الإعلام، ذلك أن الجمهور العام يعتمد بدرجة كبيرة على سيل المضامين المختلفة التي تقدم له عبر هذه الوسائل؛ ليكون من خلالها تصوره وفهمه لعالمه وما يضمه من تناقضات.
وبناء على ذلك، فإن الإعلام الجديد، وما يضمه من أرخبيل كبير من المواقع والمنصات والتطبيقات التفاعلية وبوصفة الأداة الاتصالية الأكثر انتشارا وتأثيرا في العصر الراهن، يؤثر على مجال الدين تأثيرا كبيرا، حيث تحمل منصات الإعلام الجديد في ثناياها كثيرا من الرسائل الاتصالية ذات المضمون الديني والتي تقوم بدور التوجيه الديني تارة والتضليل الديني تارة أخرى.
ولا شك أن مصادر المعلومات الدينية، قد وقع فيها تحول كبير، حيث أظهر فضاء الإنترنت، قنوات أخرى منافسة للقنوات التقليدية: كالمسجد والأسرة وغيرها، فالواقع الافتراضي الجديد بما يحمله من سيل كبير من المعلومات المغلوطة في أحيان والمشوهة في أحيان أخرى للدين وحقيقته؛ شكل ويشكل تحديا مستمرا للمؤسسات الرسمية والشعبية العاملة في الحقل الديني، تحديا يدفعها لاقتحام عتبة العالم الافتراضي، وإنشاء منصات إعلامية إلكترونية خاصة بها، لتكون مصدرا مرجعية موثوقة للجمهور المستهلك للمعرفة والثقافة الدينية عبر الإنترنت.
في مقابل ذلك، أظهر الفضاء الإعلامي الديني الجديد، ظاهرة جديدة، تسمى في الأدبيات البحثية المعاصرة بـ (ظاهرة الدعاة الجدد)، وتعتبر هذه الظاهرة عنوانا على تحول التدين في المجتمعات الإسلامية والعربية من التدين الجماعي، المنتمي إلى مؤسسات دينية (سواء كانت مؤسسات تقليدية أو حديثة) إلى تدين فرداني، منفلت من كل المرجعيات المعهودة. إنه مع بروز ظاهرة النجومية (السريعة والسهلة) في الفضاء الإعلامي الجديد، برزت شخصيات دعوية جديدة، بعضها جاد: همهم تقديم خدمة عمومية في مجال الدين، وتعزيز خصوصية الدين الإسلامي، وتلبية احتياجات جماهير الإنترنت، وغالبيتهم من فئة الشباب، سواء في التوجيه أو الوعظ أو الإرشاد أو التربية أو تدارس القرآن الكريم، والذود عن القيم الإسلامية، وتصحيح الصور النمطية المنتشرة وغيرها، وأغلبها لا يمت لمجال الدعوة والدين بأي صلة حقيقية، وأهداف هذه الفئة الغالبة مختلفة، بعضها هدفه تشويه الدين، وذلك عن طريق تمييع وتسطيح الدين (تقديم الإسلام بطريقة فضفاضة)، وبعضهم ينتمي لاتجاهات فكرية وسياسية محددة، وهدفه تقديم الدعاية السياسية المجانية والمؤثرة، وبعضهم هدفه النجومية البحتة والانتشار والانتفاع المادي من قاعدته الجماهيرية العريضة؛ وذلك عن طريق بث رسائل الدعاية والإعلان البيع والشراء لدى جماهيره جنبا إلى جنب الرسائل الدعوية العشوائية.
ولك أن تعلم أن هذه الفئة الغالبة، قد حولت المشهد الديني في فضاء الإعلام الجديد إلى مجال للفوضى والتضليل على مختلف المستويات: الفقهية أو المذهبية والعقدية أو على مستوى الممارسات الطقوسية أو حتى من خلال المعاملات اليومية.
وللأسف الشديد فإن الجماهير الغالبة في فضاء الإنترنت، خاصة أولئك المتابعين المخلصين لهذه الفئة (الدعاة الجدد)، يقومون بتجرع المعلومات الدينية التي تقدم لهم عبر هذه المنابر كمسلمات واضحة وبنوع من الثقة التامة والقداسة، دون إعمال لأي تشكيك أو نقد، نقاش أو مجادلة وغيرها.. وهي مسألة في غاية الخطورة.
ولا شك أن ظاهرة الدعاة الجدد استطاعت أن تقدم خطابا دعويا يتماشى مع الثقافة الجيلية التي يمر بها شباب اليوم، حيث إن خطاب هؤلاء الدعاة يركز على مفاهيم بسيطة وعلى لغة قريبة من الشباب، محاولا التخلص من ثقل الخطاب المعياري ومحاولا تصدير خطاب مرن ومقاصدي وعصري، إضافة إلى اعتماد، هذا الخطاب، على مفاهيم التنمية البشرية، والتي استطاع من خلالها غالبية هؤلاء الدعاة من أن يخلقوا ثقافة جديدة للجيل الحالي، تقوم على الاعتماد على الذات والتحرك في سياق اجتماعي معزول عن كل المؤثرات.
كما أن هذا الخطاب حاول المزج بين قيم الإسلام وقيم الحداثة الغربية، وأنه لا تعارض بين الفلسفتين، مع الدعوة المؤكدة للتركيز على الفرد دون الجماعة، والتي أدت بدورها إلى إعادة إنتاج القيم الدينية ووجود حالات اغتراب سيكولوجي واجتماعي ملحوظة عن الجماهير المتابعة وأغلبهم من جيل الشباب.
ويمكن القول، إن الإعلام الجديد يلعب دورا مهما في التثقيف والتوعية والدعوة الدينية، وقد عمل هذا الفضاء على دمقرطة الفضاء الديني وأزاح الكثير من القيادات الدينية الكلاسيكية وخلق بعضا من النماذج الجيدة من النخب من الدعاة الجدد.
ورغم ذلك، نجد أن استعمالات الإعلام الجديد بشكل عام وما يروجه غالبية المؤثرين الدينيين يؤدي إلى تدهور وتشظ متزايد في القيم الدينية، وذلك بسبب غياب التأطير المباشر والعصري عن طريق المؤسسات الدينية الرسمية. وفي الختام، أجد أن الحل يكمن في تكثيف دور الإعلام الإسلامي في المنابر الجديدة وتكثيف دور الدعاة الجدد، من الفئة الأولى الجادة، وتأهيلهم ودعمهم بالشكل المطلوب.
****
وكل عام وأنتم في أتم خير بمناسبة دخول الموسم الديني الروحي رمضان..
تقبل الله فيه منا صالح الأعمال وأعاننا على الصيام والصلاة والقيام وقراءة القرآن والإعمار والاستخلاف الحسن لهذه الأرض[email protected]
copy short url   نسخ
02/04/2022
1739