+ A
A -
داليا الحديدي
كاتبة مصرية
نظرت لممرضتي كملاك رحيم يوم أعطتني جهازًا وقالت لي:
كلما شعرت بألم، اضغطي على الزر، لتختفي آلامك.
وبآخر يوم لي بالمشفى، أخطرت أن «الزر» ما كان سوى جرعة «مورفين» يطلقون عليها «قاتل الألم».
لم يتأثر جسدي بتلك الجرعات، فيما تأثر سلباً جسد مريضة أخرى فأدمنته، لذا، قلما أؤيد مخدرات الألم بشتى أشكالها، فانا أفضّل صديقا يبوح لي بوضعي المزري عن آخر يخدرني بكذبات مفادها أن طوبى لحياة المعدمين وأن الموظف الذي ينتظر راتبه الضئيل يكون أسعد من صاحب المليارات، لأن الموظف لا ينتظر طفرات ما يجعله فاقداً للطموح، ومن هنا فقد استدل القائل «إن فقدان الطموح راحة».
هذا القول زائف ولا يراد منه سوى تسكين إحساس الغني بالذنب تجاه واجبه في دعم الفقير.
أتصدقون أن الفقراء يفقدون الرغبة في الترف؟
كلا وربي لا يحرمونه، بل يَئِدُونَه خوفاً من عار سفور ضعف محاولاتهم التي قد تفضح سوء أو تعقيدات أوضاعهم.
هل تجسست يوما على حلم فقير؟
أفتحت عليه باب أمنياته فرأيت عورة احتياجه؟
أشاهدت شغفه العاري ببيت مديره وسيارته؟
هل طالعت ضمير ربة منزل مهمشة تنظف زجاج النافذة فتنصدم من هيئتها الرثة، فتهرب لنوبات أحلام يقظة تتخيل نفسها «دوقة ويلز» تتمنى فستان «كيت ميدلتون» وقصرها؟
هل تنصت على صومعة ناطورك فرأيته يضع قلمًا بطرف فمه متخيلاً نفسه الزعيم «تشرتشل» بغليونه، يأمر فيطاع؟
هل دسست نفسك بين هيامات متسول تحسبه صفر التطلعات فيما يتخيل نفسه يضاجع «فينوس» آلِهة الجمال؟
تعطيه حسنة، فيشكرك برضا مخنث حتى لتحسبنه روميًا تبريزيًا بامتياز؟
إنهم لا يعدمون الأحلام ولكن لربما نفتقد نحن البصيرة التي ترينا ضمائر المعوزين أو تعري شح نفوسنا تجاه مساعدتهم، كما أنه لم تتفق لهم فرصة الضغط على زر يحقنهم بجرعة مورفين، فيتخدرون برضا زائف يستره نقصان القدرة على التنقل بين مغريات الفرص.
للكاتب الكبير «أمير تاج السر» كلمة قال فيها: «في بعض الأحيان، يبدو الحزن سلساً، وأكثر رشاقة من الفرح».
وبالمثل قد يبدو الفقر ظاهرياً أكثر وقاراً من هيبة الثراء.
وقد يبدو أن حضن الفقر أدفأ من قبلة الثراء العابرة.
فالثراء مؤهل للتقلّب، والتملّص، والتغيّر، والتمرّد، فهو إن شئت أوتي القدرة على الوفاء والخيانة معاً.
بعكس الفقر ذي الشخصية الثابتة المتحصنة بالتثاقل والتقاعس. والمتسربلة بالركود والدعة. والمتسترة خلف الخنوع، الشكوى والرضا المغشوش، وحتى وفائه أقل خضوعًا للاختبارات، فمنبعه عدم قدرته على إتيان الخيانة.
هذا لأن الفقر شخصية عشرية ليس لها متطلبات سوى تمني مطابقة أرقام اللوتاريا، أو التحسر بالحسد على ما لم يتم حصاده أو ربط الشرف والأمانة بالضنك.
أمّا الثراء فهو كائن أكثر دأبًا وإلحاحًا وسعياً، قبلته القمم ويحج للمعالي، يطوف حول هدفه سبعة أشواط ويربو ولا يهدر وقته في التنقيب عن ميراثه بين رميم الأسلاف.
ثم أن الركون لفكرة أن الفقير أسعد من ذوي المليارات لفقده للطموح بالسليقة هو منطق ابتدعه الموسر بحثًا عن تعلّلات للاستمرار في ممارسة تجاهله لاحتياجات المعوزين، يريد تصديق فكرة أن رمانة الميزان تتوازن بمقدار رضا موجود بالسليقة مع ميلاد الفقراء، يقابله مقدار من الشقاء مقترن بأقدار الأثرياء.
ومن ثم فالوضع كيت، وتعاطف الناس مع المعوزين مبالغ فيه، فكلنا في الهم شرق مترفين ومعدمين.
وللإنصاف، يوجد بين الفقراء من يوقن أن أهم نعمة في العوز هي إيجاد بيئة تسمح بخلق الحاجات وتفجير التحديات التي لو تلقفها المعثر لاستخدمها كتمرينات قفز الحواجز أو كالأثقال التي تبني العضل فيقوى الساعد القادر على كبش النجاح.
وهذا يفسر لماذا ينجب بعض الفقراء أغنياء فيما يعقب بعض الأثرياء بمعوزين لا يجيدون سوى الاستهلاك وسفح الوقت والمال في التفاهات وممارسة ألعاب الإنترنت، فالفئة الأولى استغلت تحديات الحاجة وحطمت أوثان المجتمع والدمى السابقة التصميم، أما الثانية فحصدت دون معرفة ماهية وأهمية الكدح.
فقد أتيح لهم من مزايا الحياة الرخوة في مقتبل أعمارهم ما جعلهم يعجزون عن الاقتناع أنهم هم أنفسهم قادرون على العطاء.
إن رنين الناي لم يتأت من كثرة ثقوبه، بل لأن نغماته لم تصدر سوى من كثرة تمارين الضغط على الثقوب.
وإني لأعول على قدرات الفقير، فالحصان الوديع رفسته أقوى.
copy short url   نسخ
01/01/2022
1104