في خضم الصراع الشديد الدائر على أرض فلسطين ومحيطها، تنشأ بين حينٍ وآخر اختلالات في فهم طبيعة الخصم الذي تواجهه شعوب المنطقة، وفي مقدّمتها الشعب الفلسطيني. وبطبيعة الحال، يؤدّي الخلل المفاهيمي دائماً إلى اختلال السياسات وتشويشها، أو إلى ترويج أفكارٍ مضلّلة لتبرير الضعف في مواجهة التحدّيات. وحتى لا تضيع الرؤية الاستراتيجية، في خضم ردّات الأفعال التكتيكية والانفعالات العابرة والمؤقّتة، لا بد من إيضاح القواعد الأساسية التالية لفهم سلوك قادة إسرائيل والحركة الصهيونية عموماً.
أولاً، ليست إسرائيل مجرّد كيان طارئ نتيجة ظروف تاريخية معينة، بل هي مشروع استعماري استيطاني إحلالي استند إلى فكرة تلمودية خيالية بأن فلسطين والأردن وأجزاء كبيرة من مصر وسورية ولبنان والعراق هي أرض إسرائيل الكبرى التي وعد الله اليهود بها منذ آلاف السنين، رغم أن عدداً قليلاً منهم لم يعش فيها سوى فترة قصيرة، ولا مكان في حدود «إسرائيل الكبرى المتخيّلة» للشعب الفلسطيني أو لأي شعوبٍ أخرى. وهذا المشروع -الفكرة- هو المرجع الأساس المستقر في أدمغة كل قادة الحركة الصهيونية، من يمينها إلى يسارها (إن وجد)، وهو الأساس الأيديولوجي لكل السياسات والممارسات والحروب الإسرائيلية.
ثانياً، يخضع تنفيذ الفكرة لموازين القوى، ويحتمل حلولاً ووقفات مرحلية، تضطر خلالها إسرائيل والحركة الصهيونية إلى قبولها بحكم موازين القوى القائمة، مثل اتفاقيات السلام مع بعض الدول العربية أو اتفاقيات الهدنة المؤقتة. لكن جميع الوقفات والاتفاقيات المرحلية لا تُلغي، في أيِّ حال، المشروع الأساس المذكور، بل تخدم الوصول إلى أهدافه النهائية.
ثالثاً، كان المشروع الصهيوني، ومنذ تباشيرانطلاقته المعاصرة الأولى، وما زال، مرتبطاً بالدول والمشاريع الاستعمارية الغربية التي رأت فيه الحليف الاستراتيجي الطبيعي للسيطرة على شعوب المنطقة.
وقد بدأ التفاعل بين الفكرة الصهيونية والقوى الاستعمارية منذ أيام نابليون بونابرت وحملته على المنطقة، وامتدّ عبر الغزل مع الإمبراطور الألماني، وحاول حتى مع الدولة العثمانية التي رفضته، لكن أعمق التحالفات التي نجحت وأقواها كانت مع الفكر الإنجيلي الصهيوني في بريطانيا، وبعد ذلك في الولايات المتحدة، والذي وجدت فيه الحركة الصهيونية ضالّتها وأقوى مصادر الإسناد والدعم المادي والفكري والأيديولوجي لها.
رابعاً، رغم أن أجزاء مهمة من الحركة الصهيونية، خصوصاً في الثلاثينيات والأربعينيات، ارتدت لخدمة أغراضها عباءات يسارية، بحكم توازنات القوى العالمية في حينها، وميول فئات يهودية إلى الفكر اليساري بحكم تعرّضها للاضطهاد اللاسامي بوصفها أقليات في أوروبا، فإن الأيديولوجيا الصهيونية بقيت أساساً دينية أصولية.
خامساً، لم تكن الحركة الصهيونية قط حركة محلية، بل هي حركة عالمية تعمل من دون كَلَال على تجنيد اليهود واستغلالهم في كل العالم، وتجنّد حالياً أجزاء واسعة من الإنجيليين المتصهينين خصوصاً في الولايات المتحدة وبريطانيا، وتستغل نفوذهم المالي والاقتصادي بالتحكّم في الانتخابات ونتائجها في الدول الغربية خصوصاً.
سادساً، مع احتداد الصراع مع الشعب الفلسطيني وشعوب المنطقة، جرى تحوّل خطير في الحركة الصهيونية، التي اتسمت أيديولوجيّتها دائماً بالعنصرية المتطرّفة، نحو الفاشية. ولا يمكن تفسير الإبادة الجماعية التي نفّذت وتنفّذ في قطاع غزّة، ومشاريع التطهير العرقي الشامل للشعب الفلسطيني، وجرائم الحرب الأخرى، كالعقوبات الجماعية والتجويع، إلا بأنها نتاج فكر وسياسة فاشية خطيرة لم يشهد العالم مثلها منذ الحرب العالمية الثانية.
سابعاً، ليس الاستيطان والتوسّع الاستيطاني الجاري في الضفة الغربية ظاهرة عابرة، أو مقتصراً على فئة متطرّفة، بل هو التطبيق الفعلي لكل المشروع الاستيطاني الذي يكرّر في الضفة الغربية بما فيها القدس.
ثامناً، الحركة الصهيونية وحكّام إسرائيل مستعدّون باستمرار لشن أشدّ الهجمات وأشرسها ضد كل من يقاوم مخطّطهم الأصلي، أياً كان شكل المقاومة، مسلّحاً أو شعبياً أو سلمياً، أو حتى بالفكر والكلام.
لا مجال هنا للتفصيل أكثر في شرح هذه القواعد الثماني المذكورة، ولكن لا غنى عن فهمها بعمق وإدراك مضمونها . وما زالت المشكلة الجوهرية في السلوك الرسمي الفلسطيني، وسلوك أطراف إقليمية كثيرة الاستمرار في التعلق بوهم الحل الوسط مع الحركة الصهيونية، التي قالت وفعلت كل ما يمكن فعله، ونفّذت كل ما أمكن تنفيذه من جرائم، لإيصال رسالتها أنه لا مكان لحلول وسط مع الشعب الفلسطيني، بل قضت على كل مشروع في ذلك الاتجاه,
ويترافق وهم الحل الوسط مع وهم آخر، أن الولايات المتحدة يمكن أن تكون وسيطاً نزيهاً في الصراع الدائر، رغم تأكيدها المتواصل، بالأفعال والأقوال، أنها الحليف الاستراتيجي لإسرائيل.