كان إدوارد سعيد يحاول إقناع ياسر عرفات بتغيير طريقته ومنهجه، ووقف تعسفه واستبداد رأيه، وكان يرى أن أبو عمار محاط بمجموعة أطلق عليها اسماً مبدعاً في التوصيف، أثارني لأنهُ ليس حالة خاصة بمنظمة التحرير الفلسطينية حينها، ولكنه حالة عربية عتيقة مزمنة علمانية ودينية، أسماها سعيد: البرجوازية النضالية الفاسدة.
كيف تكون نضالية وفاسدة؟
المدخل هنا في المصطلح الآخر وهو البرجوازية، البرجوازية هي الروح المادية الشرسة التي تقفز على كل مشروع لامتصاص مصالحها منه، وتُخضع بقية القوى المستضعفة الهزيلة أو المستخف بها كما في التوصيف القرآني، «فاستخف قومه فأطاعوه إنهم كانوا قوماً فاسقين»، وهنا صفة النضال أو الكفاح أو الثورة، ليست ممتنعة عن التوظيف البرجوازي، أكان إسلامياً أو علمانياً.
وبالتالي فإن ضخ الفكرة وترويجها لدى الجمهور أو القاءها في مسرح صاخب، الذي تم عبر الخطاب الثوري أو الديني الوعظي، استخدم رصيده أو غطاءه، في تمرير الصفقات البرجوازية للنخب الفاسدة، والذي يرى سعيد أن أبو عمار قد أُحيطَ بهم وكانوا جسراً للمشروع الغربي والإسرائيلي معاً.
يقول سعيد إنهُ حاول جاهداً إقناع ياسر عرفات، بالخروج من فكرة الأرض التي تمنح له في فلسطين المحتلة، مقابل التنازلات الضخمة، وإنه حمل له شخصياً عرضاً من الديمقراطيين، لمسار تفاوضي يعطي مساحة للمنظمة وللاعتراف بها، أفضل من مدريد وأوسلو، وهذا أمرٌ يحتاج للتحقق فما الفرق بين الحزبين فلسطينياً؟
يبرر سعيد ذلك العرض بأن منظمة التحرير لن تفقد فيه كل بطاقاتها، بالمقابل وافقت على إدارة أوسلو الهشة التي مُلئت بالشروط الإسرائيلية، ووضع في طيات برنامجها، ألف مسمار لنعشها، أو لتحويلها كتلة هامدة، أمام التغول الإسرائيلي الممنهج.
وما يجري اليوم يعود بنا إلى بداية الحكاية، وهو فخ أوسلو، هذا الفخ نفسه هو الذي اغتال أبو عمار ذاته، حينما انتبه متأخراً إلى حفرة أوسلو، ورفض أن يُكمل فتمت تصفيته، رغم أن النخبة البرجوازية النضالية الفاسدة، كانت حوله في رام الله، لك أن تتصور هذه اللحظة التي لم يُدركها سعيد حيت توفي في سبتمبر 2003، في حين اغتيل أبو عمار مسموماً في نوفمبر 2024، وسعيد كان مذهولاً مصدوماً من خطاب عرفات في سبتمبر 1993 فقد كان خطاباً مملوءاً بعبارات الامتنان والشكر، لرعاة الاحتلال، فيما كان رابين يمثل الخطاب الفلسطيني!
كيف ذلك؟
يقول سعيد إن خطاب إسحاق رابين كان يُقدّم الكينونة الصهيونية، بأنها الضحية العظيمة المتنازِلة للسلام لصالح (الإرهابيين) أهل الأرض، وهي التي احتلت وقتلت وهجّرت وأبادت، فيما كان أبو عمار بلغة مفككة هزيلة يكرر (thank you) فمن المجرم هنا ومن الضحية.
قف هنا لحظة واستحضر ما ذكرناه في المقال السابق، من تطابق الاستراتيجية بين الرئيس الأميركي ترامب، مع أسلافه منذ أوسلو في الكوميديا السياسية السوداء، التي تُقدم مجرمي الحرب أصحاب حق، وأن الشعب ومقاومته مجرمون، وأن المجرم سيمنحهم فرصة، لمغادرة ما تبقى منهم أو ابادتهم، كيف مهدت أوسلو لهذا المصير؟
يعود سعيد ليُجيب على حجم التضليل الإعلامي والأكاديمي في أميركا، لهذه القصة، ونسج حكايات الأمة التعظيم للدولة المتقدمة التي تبيد أمة المقاومة، وكيف أن ذالك الفضاء مليء بترسانة ضخمة وقحة من التضليل.
الأوركسترا واحدة، من جورج بوش الأب إلى كلينتون، إلى ترامب، لكن الصخب الذي دعمهم في الزمن الأخير، كان بلسان عربي وبمشروع دعم كِلا المذبحتين، ثم أعاد تأهيل سلطة رام الله، ليس لأجل المدافعة الدبلوماسية عن شعبها، ولا الكفاح السياسي لأجل التحرير، ولا ملأ كل منبر عن همجية الإبادة، ولكن للتحريض على المقاومة ذاتها، ودعم الخطط البديل.
ومنذ عواصف غزة الأولى حتى حرب ابادتها، فإن هناك أمر جديد، هو أن الغرب ووليده الصهيوني لم يعد يقبل، بضم الضفة ولا تأميم غزة فقط، ولكنه يعلن طموحه، بل مشروعه لقضم جغرافيا الدول العربية، وهنا تعود حكاية الاستنزاف وحقيقة الموقف المخزي، من منابر الصخب العربية، التي اصطفت مع أمم الإبادة الغربية، ضد شعب فلسطين.
ألم تكن رحلة المقاومة الأولى ستنقذ موقفهم وأرض دولهم، وتنقذ شعب فلسطين، لو وقفوا مع شرعيتها، حينها لم تكن خديعة وحدة الساحات الإيرانية مطروحة، فقد اقفل عليها الشيخ ياسين الأبواب، وفتح الباب الكبير للعرب حتى مع ظلمهم، فمن هو المسؤول عن الغدر بغزة ذالك العهد، وهذا العهد؟
وهل تتعظ هذه الدول لتكفّر عن خطاياها، وتضمن سلامة أرضها، بالوقوف بقوة لوقف العدوان، وتأمين أهل غزة، ورعاية اتفاق هدنة طويلة عرضه الشيخ ياسين، بعد أن غدرت واشنطن بكل وعودها، وهي ذاتها من نقض مشروع الدولتين، وبصق على اعلان أوسلو، أم سيعود العرب لصناعة مشروع التفاف لصالح خريطة ترامب؟