+ A
A -

يرتعش القلم حين يخط سطرًا عن قيمة إنسانية وأدبية كبيرة رحلت عن عالمنا مذ سبع سنوات بعد أن منحت الأدب والصحافة نصف قرن من العطاء.بالفعل ترددت حين حاولت الكتابة عن الكاتب الصحفي «سمير عبد القادر» ابن شيخ الكتاب الصحفيين «محمد زكي عبدالقادر»، فوالده أديب له مكانته الراسخة في الفكر العربي يكاد يناطح العقاد، ونادرًا ما يتوارث الموهبة والنبوغ أهل بيت واحد، لكن كأن الله قد أشار «لبيت آل عبد القادر» لنلتفت للمنتج الإنساني لهذه الأسرة.ورغم أن «محمد زكي عبد القادر» قد كتب في الصحافة، والقصة القصيرة، والرواية، والقانون كما أسس مجلة «فصول» الأدبية، إلا أن أهم منجزات المفكر الكبير كان ابنه، ففي منتصف الخمسينيات وعقب تخرج الابن من كلية الحقوق بجامعة القاهرة، وضع رئيس التحرير ابنه على خط النار حين تنكر «سمير عبد القادر» في شخصية بائع يجر «عربة كارو» ليستطيع التقاط صور العدوان علي مدينة «بورسعيد» إبان العدوان الثلاثي، وعاد من منطقة القنال وهو يحمل نصراً صحفيًا لا يعرف بعمق قيمته إلا بعد أن نشرته صحيفة «الأخبار» وتناقلته وكالات الأنباء عنها لاحقاً، ما يعني أن المفكر الكبير لم يجازف بأبناء غيره كما لم يعرض حياتهم للخطر، بل كان واثقًا في قدرات ابنه على حداثة سنه آنذاك.أزعم أن إنجاز الرجل الحقيقي تجلى في تنوع كتاباته بين التخصص الاقتصادي والاجتماعي الذي غلف سائر كتاباته، ثم أنني التفت للبساطة والصدق بل وللأصالة التي تميز بها «سمير عبد القادر»، فقد كان يكتب بأسلوبه هو، وهو أسلوب آية في الوضوح والبعد عن التقعر.كان ومضة تسطع في الظلام لتنير درب الفكر، ثم تختفي سريعاً كأنها طبعت قبلة على جبين الإنسانية.سمير عبد القادر كان يكتب بحبر الرقة الشفاف وبعفوية الطيب الواضحة وبمشرط الجراح المعالج وبشغف الباحث المستكشف وبقلم كاتب اطلق العنان لإنسانيته.فقد كان يدير ظهره صراحة إلى اللافتات التي تسعى إلى تأطير كتابة المقالات بعناوين برّاقة، مخادعة على حساب المحتوى، بل كان مباغتًا لفرط بساطته ومباشرته وشفويته، فقد تخفف من المجاز وهجر المحسنات ليبدع دون ثقل أو تكلف البعد في المسافة عن الجميع.وقد استوقفني هذا البعد الإنساني العميق في شخصية الكاتب الكبير والذي لم استوعبه إلا بعد اطلاعي على رسائل والده له.. تلك الرسائل التي نشرت مكتوبة بأقصى حالات البوح، وبمرآة شخصية مثقلة بخبرة الحياة وبدموع الكبار وبالمكاشفة، وبدون موارية عن معاناة الفقد للزوجة والأم في حياة الكاتبين، فالأب فقد زوجته بعد فترة جدًا قصيرة من إنجابها للابن الذي خسر الأم «العزيزة» والطمأنينة الغالية.وصدق «محمد زكي عبد القادر» حين كتب:«من الألم ينبع كل شيء عظيم» {{{كنت شابة صغيرة حين اطلعت على الرسائل التي وجدتها تحفة أدبية لم أقرا مثيلا لرهافتها، وهي تدفعك لأن تعيد التفكير في بديهيات الحياة وأبجدياتها، بل لقد اكتشفت أن البوح من فضائل الكتابة، فهو كاشف للحقائق، فكيف لمحمد زكي عبد القادر، هذا الرجل الشاهق الذي تخشى من احتمالية أن تضعك الأقدار وجهًا لوجه معه، وإذ به على الورق شخصية تهشم المشاعر وترقق الصخر وتذيب العناد، وقد كنت تحسبه أهل شدة، وإذ به طاقة من الإنسانية خليقة بأن تحظى بلقب أديب وحري بأمثاله أن ينجبوا أديبا وانسانا يحمل أرقى معاني الإنسانية.سمير عبد القادر هو الرجل الذي تخاله عمك أو تتمناه خالك، وتطمئن لوجود أنفاسه في الكون وتغضب له حين تعلم بخبر اعتقاله، فقد تعرض سمير عبد القادر للاعتقال عقب قيامه بتغطية انقلاب الرئيس «هواري بومدين» بالجزائر، ولا تندهش حين تعلم أنه يتمنى صادقًا الخير للجميع، فهو الأب النادر الذي يحجز لأبنائه تذاكر حفلات موسيقية ليقضوا أمسيات طيبة بصحبة زوجاتهم، وهو الرئيس الذي يوجه وينتقد دون إهانة كرامة مرؤسيه، بل يدفعهم دفعًا للمزيد من الظهور، وهو الجد «الرحمة» كما أنزل في الكتاب، وهو الجار الذي تتمنى جواره لتسعد بملاقاته على المصعد لأنك تشعر أنك آمن في جواره، وهو الإنسان الذي ستندم أشد الندم أنك ما عرفت قدره وما أوفيته حقه وما فهمت صمته.. هو الخل الوفي الذي يجعل المستحيل.. غير مستحيل.{{{على أمل أن نقابل بدروب الحياة أشخاصا كسمير عبد القادر ليهدونا.. نحو النور.

copy short url   نسخ
27/08/2022
50