+ A
A -
مهنا الحبيل
باحث عربي مستقل- مدير المركز الكندي للاستشارات الفكرية
حين بدأتُ كتابة زمن اليقظة والذي صدر في فبراير 2018، كانت رياح الثورة المضادة للربيع العربي تتمكن من كل دولة، وما بين شلالات الدماء التي لم تتوقف حتى اليوم في سوريا، وانشطارات الصراع الثوري في ليبيا، وارتدادات الضغط الشرس على تونس، الذي يثبت واقعها اليوم بعد قرارات الرئيس قيس سعيّد تعطيل المشاركة الشعبية، بأن الصراع الفكري في تونس كان ولا يزال تحت جذوته المستعرة.
وفي كل بقعة ذكرتُها أو لم أذكرها ستجد صداً واضحاً لهذا الصراع، فكان هناك عند صدور الكتاب تجاذبان مهمان، الأول يرى أن مساحة هذا الصراع ليست مؤثرة في حركة الأحداث، أو على الأقل يُغيّبها عن مساحة النقاش والحوار الضروري في تنظيمه، بين أبناء القطر العربي الواحد، وبين كل الحركة الثقافية العربية، التي يجمعها الأمل بميلاد نهضة عربية في الشرق، وأولُ بصمتها هو كرامة المواطن ومشاركته الشعبية، فدون هذا الحد من الروح الحقوقية فإن المواطن سيكون مقيداً في الرأي وفي العمل على صناعة مستقبله المختلف، والخروج من واقعه الذي يحيط به الاستبداد والفساد من كل جانب.
أما التجاذب الآخر فقد كان الاعتقاد بأن عودة حركة الثورات أو الانتفاضات العربية، بات بعيداً بحكم بأس الثورات المضادة، وهذا البأس المتوحش لا شك فيه، فيكفي اليوم أن أبشع المجازر لا تزال تجري في سوريا، ولم تعد تبرز في الشارع العربي نفسه، فضلاً عن العالم أو أصدقاء الثورة الشركاء في ذبحها.
لكن الشواهد توالت منذ صدور زمن اليقظة وحتى اليوم، على خطأ كِلا الرأيين، فلا تزال معالم الاحتجاجات وثورة المشاعر متقدة على مساحة الوطن العربي، ولا تكاد تجد أي مبادرات إصلاح أو حتى احتواء إنساني تهدأ فيها خواطر الناس ويجدون ما يسد رمقهم، ولا تزال الهجرة إلى عالم الجنوب مفتوحة متزايدة، وأما الرأي في المسار الآخر، فهو تهميش الإسلاميين والعلمانيين في الوطن العربي لأهمية ضرورة إقامة طاولة حوار تجمعهم، تُحرّر فيه مسألة الدولة المدنية والمرجعية الدستورية لها.
وهي اليوم من أشد عناصر الانقسام في انتفاضة السودان الأخيرة، التي أطاحت بحكم الرئيس البشير، ثم مواجهة انقلاب عبدالفتاح البرهان والجهاز العسكري على الحكومة الانتقالية، وأثر هذا الصراع برز في السودان بقوة، وانتقل إلى الوطن العربي، لكونه جمرة تتقد تحت الرماد ولم تخفت منذ عقود.
العجيب أنه خلال الفترة الانتقالية السابقة لحكومة السيد عبدالله حمدوك، والتي يُفترض أنها كانت فرصة حيوية، غاب الإعلان عن حوارات عامة بين الاتجاهات العلمانية والإسلامية، واختفت كثير من أصواتها المهمة والمعتدلة، بسبب زخم الصراع الشرس في الميدان وتجاذب الراديكاليين من كل جانب، فلا كل الإسلاميين في السودان، هم تبعاً للحركات الحزبية وبالذات فرعيها تيار الشيخ الترابي وتيار علي عثمان طه، وإن كانت هناك داخل هذه الحركات شخصيات وطنية رائدة وراشدة فكريا.
ولا الحالة العلمانية السودانية في ميدانها الغني العريق، محتكرة في قبضة الشيوعيين الراديكاليين أو التطرف الجندري الإلحادي، ولكن التيارات الأخرى لم تُنسق فيما بينها طاولة حوار، ولم نسمع أن هناك ندوات ممنهجة منظمة تفكك هذا الصراع، ولو على مستوى أن يُنظّم في إطار توافقي يؤسس لمفهوم الدولة المدنية، غير المنتقمة من الضمير السوداني المسلم.
فراغات ضخمة وجدنا على الأرض أثرها في علاقة المجتمع السوداني ببعضه البعض، ولايزال حتى اليوم في منعطف الصراع القائم لم يتقارب ولم يحسم أمره، والصوت المدوي بين من يتوعد الإسلاميين ويرصهم جميعاً تحت مصطلح الكيزان الفاسدين، أو من يعلن صراحة من الإسلاميين أن الخلاف ليس على الدولة المدنية، ولكن على الأجندة الحمراء التي أضحت اليوم تحت رعاية الرأسمالية الغربية، لفرض مشروع تجريف غربي على الأسرة السودانية.
ولو جلس الناس لبعضهم البعض، لوجدوا مساحة مختلفة تماما، لكن الجلوس إلى الحوار لا يمكن أن يُسعف أي مشهد وطني محتدم وقت الأعاصير، وإنما يُستبق قبل ذلك بزمن.
copy short url   نسخ
31/10/2021
2120