في ذكرى هجرته صلى الله عليه وسلم، نحتاج اليوم لفهم منعطف الرحلة في تاريخ البشرية وفي أزمة الإنسانية المعاصرة، وهو ما قد يُثير مجدداً السؤال المؤلم العميق في تاريخ المسلمين، وهو حجم تخلفهم الأخلاقي عن سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم، في مشاعر الذات وأدبها وفي تعاملها مع الآخرين.

وفي الرؤية التي تحكمها بين المبادئ والمصالح، والتي تَضرب بين الشعوب المسلمة في ذاتها، ومن خلال الصراع بين أقطارها ودولها وجماعاتها المذهبية وعصبياتها الاجتماعية، وهو باب أزمة كبير له إرثٌ قديم، حتى حينما كان العالم الإسلامي تحت سياق سياسي سيادي واحد فإن المأزق الأخلاقي كان حاضراً، وهو أحد أهم دعوات النبي صلى الله عليه وسلم في ضرورة مراجعة الذات، لتصحيح خللهم والقيام بأمانة البلاغ وركنه الممتد وهو العدل والإحسان بين الناس.

ولذلك فالهجرة تذكّر بالضرورة المسلمين بالمركز الأخلاقي لرسالتهم، الذي يُذبح في أوطانهم مراراً وعليه يزداد بأس الأمم الأخرى عليهم، لكن ذلك محددٌ سببه وسياقه بوضوح، من خلال التخلي عن منهج النبوة وتعاليمها الأخلاقية والمقاصدية، ليس كما يظن أنصار الظاهر أن نمط اللباس والانغلاق يمثل الإسلام النقي، بل في وعي دلائل الرسالة والقرآن، ونصوص النبي صلى الله عليه وسلم، في حياة الفرد الأخلاقية ومعاملات الحياة، فهنا حددنا أصل المأزق القديم القائم.

فنفتح الباب هنا للمعنى الآخر عن معنى الهجرة كيف يُعرض في العالم الجديد، وكيف تفهمه أجيالنا؟

إن الهجرة أسست لقيام كيان سياسي في صورته البسيطة، كونيٌ في عمقه الرسالي، فهو مرحلة الانطلاق للبعثة النبوية للعالم، ولذلك فالهيكل السياسي هنا هو دولة مهمتها أداء البلاغ، مع بقاء دروس القيم والعدالة التي انعكست في حياة النبوة والمجتمع الأوّل، ثم تحولت الدولة بعد النبي صلى الله عليه وسلم إلى إطار سياسي، له أبعاده من زمن الرشد حتى تمكن الاستبداد، فسياق دولة النبوة للبلاغ لا يُحتج به إلا في مهمة الرسالة والقيم.

ولذلك حين نفتح نافذة التاريخ الإنساني نجد الهجرة تذكرنا برابطة النبوات، فالنبي صلى الله عليه وسلم جاء بعد رسالة السيد المسيح، وعيسى جاء بعد رسالة موسى وهم جميعاً في أثر رحلة النبوات، من الخليل إبراهيم ومن علمناهم أو جهلناهم، نبوات ثابتة في تاريخ العالم لا يُمكن أن تُخلق من كذب.

هنا يأتي معنى استحضار هذا العمق الإنساني للهجرة، فالنبي صلى الله عليه وسلم هو الوريث الخاتم لدين واحد، وشرائع متعددة أتت بحسب السياق الزمني، فهو نبي لم تأتي رسالته مطلقاً بأي فكرة صراع مع الأنبياء، بل تقديرهم وتعظيمهم، وتجديد الشريعة التي يحتاجها كل زمن تحت قاعدة كل الرسل، في الإيمان بالخالق العظيم الموجِد الآمر بالعدل الناهي عن الشر والإفساد.

هكذا تُستحضر رسالة الهجرة في عالمنا اليوم، وهناك تشويه ضخم للنبي صلى الله عليه وسلم، يستدعي الصراع الذي قام في الزمن القديم مع جماعات دينية من بني إسرائيل، أو مع أمم مسيحية على أنه صراع مع اتباع الرسالات وهذا غير صحيح.

المواجهة كانت مع مواقف وأحداث سياسية واجهت النبوة والإسلام، ويبقى المفهوم الأساسي لوحدة النبوات، وما اتحد من التشريع في مقاصده وفلسفته، ونحن نبني اليوم على هذا الأصل وبقائه، رغم أن الرفض منذ العهد الأول حتى اليوم، كان ينطلق من رفض بعض أهل الكتاب نبوة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم، أما الإسلام فلا يَقبل أي مس ولا يكتمل إيمان الإنسان دون أن يعترف بأسرة النبوات جميعا، فهنا تبرز قاعدة التعايش والانسجام لدعوة الخالق الواحد، بين الإسلام ومخالفيه.

أما الجانب الثاني لمعنى الهجرة فهو أننا نعيد بعث التذكير بها، لمضامين الخيرية في عمران الأرض وسلامة الطبيعة، وانسجام الكون بين ما فطر الله الأرض عليه، وبين ما يحفظ الذات البشرية والأسرة الاجتماعية الأب والأم والأطفال، وما الذي كان عليه العرب قبل البعثة وما الذي حملوه للعالم الجديد في حينه، وهل العالم اليوم استفاد من حملة الإقصاء والتشويه وتجهيل شعوبه عن الإسلام؟

هل وجد حلولاً له تقيم العدالة بين أممه وتحمل الناس على الرحمة بينهم وحماية مستقبلهم وبيئاتهم، أم أنه يسقط في الهاوية الأخيرة، هنا معنى ذكرى الهجرة في سبيل الخيرية السماوية.


مهنا الحبيل
باحث عربي مستقل - مدير المركز
الكندي للاستشارات الفكرية