+ A
A -

في عصرنا هذا الذي يتسم بالتغيرات المتسارعة أصبح الاستشراف الاستراتيجي للمستقبل لا مناص منه، وإنما ضرورة حتمية للحكومات والمؤسسات وحتى الأفراد، إذ يتيح رؤية أوسع وصورة أوضح للمستقبل، ويحدد الفرص والمخاطر، ويساعد على اتخاذ قرارات استباقية، وإعداد سيناريوهات وخطط محكمة للتعامل مع أية تغيرات مستقبلية طارئة، والتخطيط للمستقبل لا يقوم على الشك والتخمين وإنما على الثقة واليقين، باستخدام مناهج علمية وأدوات بحثية تحليلية حديثة.

وبناء على ذلك تصيغ الدول سياساتها واستراتيجياتها الوطنية للمستقبل، والسياسات الوطنية لدى دولة ما تختلف عما لدى الأخرى كل بحسب إمكاناتها ومواردها وسكانها، ولكن بينها قواسم مشتركة تتمثل في التشريعات والمبادئ والضوابط والأولويات التي تدير بها الحكومة الملفات الوطنية والتعامل مع احتياجات المواطن من لحظة ميلاده حتى رفاهيته.

والشغل الشاغل الآن للدول الطموحة التي قطعت شوطا طويلا في سبيل تحقيق أهداف التنمية المستدامة ومنها قطر بطبيعة الحال التخطيط لما بعد 2030 وحتى 2050، لأن الواقع لم يثبت على حال، بل يفاجئنا كل يوم بجديد، فمراكز دعم الابتكارات لا تتوقف، والاختراعات تتوالى، والاكتشافات تأتينا تتري، أي يتبع بعضها بعضا، والتغيرات تتسارع، وتفرض معايير جديدة، فمؤشرات قياس اليوم قد لا تصلح للغد، وما نراه تقدما وإنجازا عظيما الآن قد لا يكون كذلك غدا، ولكنه على كل حال يشكل بلا ريب منصة للانطلاق نحو غد أفضل وواقع جديد.

نحن في قطر أوشكنا على تحقيق أهداف التنمية المستدامة كافة، وعلى صناع السياسات الوطنية تجاوز هذا، إلى الاستعداد والعمل والتخطيط لما بعد 2030،، فالحياة بعدها ليست ثابتة، والمسرح العالمي ليس مشهدا واحدا، وإنما مشهد يتبع آخر إلى ما لا نهاية، ورغم ذلك نمتلك الفرص للتعامل مع هذه المتغيرات وتجعلنا متفردين متميزين، وتحقيقها والاستعداد الأهم لها يبدأ بالتحول الرقمي الشامل، فلم يعد ذلك اختيارا، بل ضرورة للبقاء في السوق، وتحقيق النجاح والصدارة بشكل عام، وحجز مكان مناسب في العصر الرقمي الذي يتجلى أكثر ما يتجلى مع حلول العام 2030 فما بعده، من خلال استخدام الذكاء الاصطناعي، الروبوتات، الحوسبة السحابية، إنترنت الأشياء، والشبكات المتقدمة في كل القطاعات، والأخذ في الاعتبار أن التطور التكنولوجي مستمر وسريع ولا نهاية له، لهذا يجب أن يكون التحول الرقمي وتطويرها مستمرا أيضًا، مما يجعل الحكومة والمؤسسات والشركات في حالة تأهب لمواكبة التطورات العلمية الحديثة.

وأهم نطاق من نطاقات السياسات الوطنية للمستقبل هو القطاع الاقتصادي الذي توليه الحكومة أهمية بالغة، فاستخدام التقنيات الحديثة به يحقق زيادة القدرة التنافسية، والتعامل الإيجابي والفوري مع متغيرات الأسواق، والانتقال من المتاجر التقليدية إلى الإلكترونية، وإجراء التحليلات لفهم التوجهات الاقتصادية العالمية، وتطوير الخدمات البنكية والمدفوعات ومنصات التمويل الجماعي رقميا، ويحسب للدولة أنه في منتدى الدوحة الحادي والعشرين عام 2023 نفذت إطلاقا عالميا للنسخة الثالثة لتقرير «المؤشر الاقتصادي لجاهزية المستقبل» تحت عنوان «السياسات الرقمية محور جاهزية المستقبل».

ولأن قطر تتمتع باستقرار سياسي وأمني، وشفافية حقيقية، واتفاقيات تجارية عادلة مواتية للمستثمرين، فهي مع التحول الرقمي الشامل وسياسات وطنية مدروسة مؤهلة لأن تكون مركزا نموذجيا للاستثمار عبر الحدود، وجسرا متينا يربط بين الأسواق العالمية، تتدفق إليها ومن خلالها الاستثمارات الأجنبية التي تشكل حافزا للتنمية، ودافعا للابتكار والنمو، ومن المؤكد أن نموذج الاقتصاد القطري بإمكانياته القوية لا يخشى عليه من الاعتماد على رؤوس الأموال الأجنبية.

وقطر هي الأكثر قدرة على تعزيز نموذج «اقتصاد بلا حواجز» كالجمارك والضرائب والحصص والمعايير واللوائح التنظيمية وغيرها، لما تمنحه من إعفاءات مالية، وتوفره من تمويل، وتقدمه من حوافز، وما تسمح به للمستثمر الأجنبي من ملكية 100%، هذه المزايا تؤهلها لأن تكون همزة وصل بين الاقتصادات والثقافات والحضارات، ونحن على ثقة بأن صناع السياسات في قطر لن يغفلوا الأخذ في الاعتبار وجهات النظر المختلفة والمتباينة تجاه الحواجز الاقتصادية أو التجارية، كوجهات نظر رجال الأعمال المحليين، ووجهات نظر المستهلكين، ووجهات نظر الاقتصاديين، ووجهات نظر الشركات الناشئة.

فالشركات المحلية القائمة تدعم الحواجز التجارية لحمايتها من المنافسة الأجنبية، وضمان هيمنتها على السوق، بينما المستهلكون يفضلون كسر الحواجز لأنه يؤدي إلى انخفاض الأسعار وزيادة التنوع، ويرى معظم الاقتصاديين أن الحواجز التجارية تشوه الأسواق وتؤدي إلى تخصيص أقل كفاءة للموارد، في حين تدعو الشركات الناشئة إلى تقليل الحواجز التي تعوق توسعها ووصولها إلى الأسواق الدولية، غير أن السياسة الوطنية يمكنها أن توفق بين هذه التباينات.

إذا حققت قطر مكانتها كمركز للاستثمار عبر الحدود واقتصاد بلا حواجز تلقائيا يتعزز لديها التنويع الاقتصادي، والصناعات بمختلف أنواعها وأحجامها، وتنطلق منها قوافل التصدير إلى وجهات عالمية مختلفة، إذ يرى كثير من الخبراء أن الدولة التي تسعى لأن تكون مركزا للاستثمار عبر الحدود أو للاقتصاد الحر لا يمكن إلا أن يقود اقتصادها التصدير لا المال، وسوف تتطور نوعية وكفاءة وأداء الاستثمارات الوطنية.

وإذا نجحت الدولة لأن تكون مركزا للاستثمار عبر الحدود وتعزيز الاقتصاد الحر سوف تصبح مركزا أيضا لحل الأزمات الاقتصادية التي تترتب على الحروب الجيوسياسية والتضخم وتقلبات الأسواق وتباين الأسعار، بما لها من تجارب ناجحة في حل معضلات كانت مستعصية، وبما تتمتع به من علاقات وثيقة مع دول العالم، لأن حل الأزمات الاقتصادية يتطلب جهودا مشتركة من جميع الأطراف المعنية سواء كانوا حكومات أو شركات أو أفراد.

هكذا تكون قطر ما بعد عام 2030 وحتى عام 2050، وقد بدأت الملامح نراها في اتفاقية قطرية صينية لتوريد الغاز الطبيعي المسال مدتها 27 عاما تبدأ من العام 2026 وتستمر حتى العام 2050 وعلى صعيد النقل وضع خطة للاستثمار في النقل البري حتى 2050 وسوف ترتسم الكثير من الملامح لاحقا.

بقلم: د. بثينة حسن الأنصاري خبيرة تطوير التخطيط الاستراتيجي والموارد البشرية

copy short url   نسخ
04/02/2025
205