+ A
A -

تأخذ الأقوال المأثورة حيِّزاً كبيراً من ثقافات الشعوب، وترسم طابع تعاملاتها اليومية، وتفرض عليها أحياناً كثيرة طقوساً وعادات معينة تتوارثها جيلاً بعد جيل دون تفكير أو تمحيص. فحتى يومنا هذا ما يزال الكثيرون منا يطبقون حكماً واقتباسات انقضى على ظهورها مئات السنين: بعضها صالح باختلاف الأزمنة، وبعضها لا يصلح في زماننا، وقسم ثالث لا يصلح لأي زمان ومكان أساساً.

من تلك الأقوال المتداولة بكثرة حتى يومنا الحاضر، مقولة تتناقلها الألسن في كل بقاع الوطن العربية على وجه الخصوص، مفادها أن «فائد الشيء لا يعطيه». بمعنى أن من لم يحظَ بالحب والحنان في صغره لن يقدمهما لأولاده حين يكوّن أسرة، ومن نشأ في بيت فقير بالكاد يجد فيه كسرة خبر تسد جوعته كل يوم، سيكون على شاكلة أهله فقيراً غير قادر على مساعدة أحد، ومن كان والداه بخيلين، فإنه سيصبح مثلهما تماماً مع أولاده في المستقبل؛ لأنه لم يتعلم الكرم من البيت، وهكذا دواليك.

لكن يشاء القدر أن يخرج إلينا أصحاب عقول نيرة يدحضون مثل هكذا أقاويل تسبب اليأس والقنوط، وتجعل الكثيرين يتذرعون بحجج واهية لتبرير تقصيرهم تجاه أنفسهم والآخرين، ويبيحون لذواتهم القسوة وغير ذلك من تصرفات سيئة بناء على اعتقاد داخلي بأنهم لم يختبروا نقيض ما يفعلونه في حياتهم حتى يتصرفوا بصورة مغايرة! من أمثال تلك العقول المتفتحة الشاعر «نزار قباني» الذي قد يختلف اثنان حول أسلوبه الشعري حسب ذائقة كل واحد، لكنهما على الأغلب لن يختلفا حول ذهنيته المتقدة وأفقه الواسع في عصر تقليدي. حيث قال رداً على المقولة السابقة حكمة بقيت حاضرة في أذهان أصحاب العقول والقلوب الحرة حتى يومنا هذا: «من قال إن فاقد الشيء لا يعطيه؟ بل فاقد الشيء يعطيه ببذخ؛ لأنه أدرى الناس بمرارة فقدانه؟».

ورغم أن هناك عوامل عدة تلعب دوراً في صواب المقولتين السابقتين، إلا أن الفيصل النهائي في الأمر هو الإنسان ذاته. قيل لي ذات مرة بأن فاقد الشيء قد لا يعطيه إذا كان بطبعه إنساناً أنانياً لئيماً – وهذا صحيح، وينطبق عليه المثل القائل: «إذا أكرمت الكريم ملكته، وإذا أكرمت اللئيم تمردا». لكن في الوقت ذاته، إذا كان الشخص معطاء بطبعه أو اكتسب الكرم بفضل عقليته المتفتحة، فإنه يستطيع تقديم شيء ربما فقده في صغره، وبالتالي فإنه يدحض بسلوكه الجديد هذا أي مقولة أو اعتقاد بأن من فقد شيئاً فإنه لا يقدمه.

إن ما يجعل مقولة نزار قباني أصدق من المقولة الأولى، هو أن فاقد الشيء يعلم مرارة عدم وجوده في حياته، فيستطيع إعطاءه لمن حوله إن أراد، تماماً مثلما يفعل أب حنون مع أبنائه وبناته بعدما حرم الحنان حين كان صغيراً. وكل ذلك بناء على قرار ذاتي من الشخص نفسه، لا بناء على أنه حرم من الشيء أو لا، بدليل أن كثيراً من الذين عاشوا في أسر فاحشة الثراء هم أبخل الناس على وجه الأرض، بينما يمكنك أن تجد فقيراً محتاجاً لكنه معطاء لأبعد الحدود. والأمثلة على هذا الأمر لا تعد ولا تحصى، فهناك من ولد في أسرة متعصبة دينياً إلا أنه بسبب فقده للاتزان الروحي والتطبيق الصحيح للدين اكتسب القدرة على ألا يكون مثل أفراد أسرته بل أفضل منهم. وهناك في المقابل من لم يتعلم كيف يحترم الآخر ويتفهم معتقداته فنشأ متعصباً أكثر من والديه حتى. إذن فالأمر نسبي، والقرار بيد الشخص ذاته.

لكن ما هو مؤكد 100 % هو أن فاقد الشيء يمكن أن يعطيه إذا رغب ذلك. فليس هناك مجرد طريقين لا بد للإنسان من اختيار أحدهما: فاقد الشيء لا يعطيه، أو مالك الشيء يعطيه، بل هناك طريق ثالث يمكن للمرء أن يختاره بمحض إرادته الحرة، ألا وهو: فاقد الشيء يعطيه، بل ويمنحه أضعافاً مضاعفة؛ لأنه يدرك حجم المرارة التي يشعر بها من فقده. فكن من أصحاب الطريق الثالث في كل فعل إيجابي. اختر دوماً التصرف الإنساني الأفضل في تعاملك مع ذاتك والآخرين، ولا تلتفت لتلك الأقوال والاقتباسات المحبطة، بل اصنع واقعك بيديك، وكن مشكاة تنير الدرب أمام الجميع، وشمعة تزين سماء كل من فقد شيئاً في حياته.

copy short url   نسخ
03/02/2025
15