+ A
A -
عمر الشيخ كاتب سوري

لفهم الواقع السياسي في سوريا، يجب العودة إلى جذوره التاريخية التي كرّست استبداد الحُكم لصالح القائد الأوحد. قبل سيطرة حزب البعث عام 1963، شهدت البلاد تجربة ديمقراطيّة واعدة تجلّت في نظام برلماني تعدّدي أتاح مساحة للحوار السياسي والتعبير عن التنوّع المجتمعي. ورغم ما رافقها من اضطراباتٍ، ظلّت السلطة قائمة على التنافس المشروع وإرادة الشعب، غير أن سلسلة الانقلابات العسكريّة التي بدأت في أواخر الأربعينيات، حوّلت السلطة لساحة صراعٍ بين النخب السياسية والعسكرية، ما فتح الباب أمام نشوء أنظمة شمولية. هذا المسار أدّى تدريجياً إلى تآكل الديمقراطية وتعزيز الاستبداد، حتى وصلت البلاد إلى نظام حكم آل الأسد، الذي انتهى بسقوط النظام في 8 ديسمبر/‏‏ كانون الأول 2024، وسط أصوات الحرّية والتغيير في طول البلاد وعرضها.

لقد رسّخت التحوّلات السياسية في سوريا الخوف عنصراً أساساً في الوعي الجماعي للسوريين، فتحوّلت السلطة من خدمة الشعب إلى أداة قمعٍ ومراقبة، تخترق تفاصيل الحياة اليوميّة. هذا الواقع دفع الأفراد إلى التعايش السلبي مع القمع، ممّا أضعف شعورهم بالمواطنة والمسؤولية الفردية والمجتمعية. وربّما على الصعيد الاجتماعي، عمّقت السياسات القمعيّة الانقسامات بين الناس وزرعت الشكوك المتبادلة، فبات الخوف من الوشاية والتجسّس يخيّم على العلاقات اليومية.

إن إعادة بناء سوريا تتجاوز إعادة إعمار البنية التحتية، حسب ما نستنتجه من مراقبة المجتمع السوري في مناطق سقوط النظام، حتى التحرّر الكامل من سطوته، ولعلّ إعادة البناء تتطلّب التهديم العام عبر الحوارات واللقاءات، والتواصل الاجتماعي الحقيقي، لتضمن تلك الخطوات تحرير مفهوم السلطة من إرث القمع وإعادة صياغتها عقداً اجتماعياً قائماً على الشفافية والمساءلة.

طوال أيّام الثورة، واجه السوريون نظام الأسد وصراعات الفصائل والتحدّيات الاجتماعية. ورغم الشتات والدمار، بقي الأمل بزوال النظام قائماً، وبسقوط حكم عائلة الأسد في سوري، بعد خمسة عقود من الاستبداد، تقف البلاد أمام فرصة تاريخية لإعادة بناء مستقبلها وسمعتها على أسس جديدة. هذا التحوّل كثيراً ما يتطلّب تجاوزاً لإرث القمع الذي حوّل سوريا من وطن غني بالتنوّع إلى دولة مغلقة تحت هيمنة عسكرية قمعية، راحت تصدّر التعاسة والأخطار للعالم، وتقنّن حياة سكّانها إلى مستويات دون خطّ الفقر.

اليوم، تواجه سوريا تحدّياً كبيراً يتمثّل في بناء وعي وسلوك جديدَين يتخطَّيان عقلية الانتقام والتشفّي. وتمثّل العدالة الانتقالية جوهر هذا التحوّل، فهي السبيل العادل لتحقيق المحاسبة من دون انتقام، ومعالجة جراح الماضي بطريقة تحفظ وحدة المجتمع، وترسّخ قيم الحرّية، التعدّدية، وسيادة القانون. إن رفض الانتقام ليس ضعفاً، بل هو شرطٌ أساسي لإعادة بناء الثقة، وخلق بيئة تدعم الأمل بدلاً من الأحقاد. سورية الحرّة لا بدّ أن تكون وطناً يحتضن جميع أبنائها، وطناً يتحوّل فيه إرث الألم إلى قوة تدفع نحو التغيير، وتنبت بذور التصالح واستحقاق الوفاق الوطني لجميع السوريين.

يتطلب الواقع حواراً شجاعاً يؤسّس عقداً اجتماعياً جديداً يضمن حقوق الجميع، فتكون العدالة، وليست الكراهية، الأساس للسلام المستدام. بعد عقود من الاستبداد، يحتاج السوريون إلى إعادة تعريف السلطة خدمة للمواطن لا أداة للقهر، واستعادة دورهم مواطنين ذوي حقوق وواجبات. إذا ترك الفراغ السياسي والاجتماعي الناتج عن سقوط النظام من دون معالجة واعية فقد يؤدّي إلى فوضى وصراعاتٍ مدمّرة، كما أظهرت تجارب دول أخرى. وهنا إشارة مباشرة إلى ضرورة بناء مؤسّساتٍ ديمقراطية تشاركية لعلّها السبيل لتجنّب تفكّك الولاءات، وتحقيق الاستقرار الذي تحتاجه الدولة السورية.

كيف يمكننا في غياب وعي سياسي جامعٍ إعادة تعزيز ثقافة المواطنة الحقيقية، التي تعيد للفرد مكانته شريكاً أساساً في بناء الدولة، بدلاً من أن يكون تابعاً للسلطة الحاكمة؟ يمكننا التّفكير في استراتيجيات تعزّز الجهود التشاركية بين الفاعلين السياسيين، والثقافيين، والمدنيين، بهدف بناء جسور تواصلٍ فعّالة بين الشارع والنخب. يتطلّب ذلك تعاونَ الكيانات الثقافية، الأحزاب الجديدة، منظّمات المجتمع المدني، الإعلام، لتمكين المجتمع من ممارسة الرقابة، والمشاركة الفاعلة في صياغة دستورٍ يعبّر عن تطلّعات السوريين.

إلى جانب ذلك، يجب تعزيز التنافس السلمي لضمان تمثيل التعدّدية السورية. ويتطلب الوضع الراهن توحيد الجهود العسكرية والأمنية لتحقيق الاستقرار، مع إرساء مبادئ عدالة محايدة ومنصفة تعبّر عن إرادة جميع الأطراف.

التّحذير الأشدّ يكمن في الحذر من انتقال بعض داعمي النظام الساقط إلى صفوف الثورة من دون فهم حقيقي لمعناها، ومن دون تقديم نقد ذاتي أو اعتذارٍ صادقٍ للضحايا. الثورة ليست وسيلة لتبديل رموز السلطة أو تمجيد قائدٍ جديدٍ، بل هي مشروعٌ لتغيير جذري يهدف إلى وضع السلطة في خدمة الشعب، لا العكس. إسقاط الأنظمة وحده لا يكفي، فالثورة الحقيقية تتطلّب مواجهة السلوكيات المشوّهة كالتشبيح، الذي يُعبِّر عن عمق الأزمة في بنية الفرد ويعوق بناء مجتمع قائم على العدالة. إن غاب هذا الوعي، ستظلّ الثورة تدور في حلقة مفرغة. سقوط نظام الأسد لا يعني نهاية المشكلة إذا بقيت حاضنته في أجهزة الدولة تفكّر وتعمل بالعقلية ذاتها، التي دمّرت الدولة، فالثورة سوف تبقى ناقصة.العربي الجديد

copy short url   نسخ
03/02/2025
10