أهتم كثيراً باللحظات الأخيرة، وأدقق في المشهد الختامي لأي تعامل يزخر بالمعاني إما أجد نفسي طرفاً فيه أو أراه يجري بين الناس. فليست اللحظات الأولى وحدها هي التي تولد الانطباعات الدائمة، وإنما أيضاً اللحظات الأخيرة.
فنهاية كل محاضرة مثلاً مهمة تماماً كبدايتها. والجملة الأخيرة التي أقولها هي التي تبقى عادةً في مسامع الطلاب. وآخر جملة قيلت عند باب المنزل في وداع أقرباء أو أصدقاء غالباً ما لا تُنسى أو تضيع. والطريقة التي ينهي بها طالب ورقة الإجابة كثيراً ما تترك بصمة يتوقف عندها المصحح. ونهاية أي فيلم أو رواية هي أكثر ما يتذكره المشاهد أو القارئ. وآخر دقيقة في إعداد الطعام من أهم، إن لم تكن أهم، مراحله. فقد يضيع مجهود طاهٍ بارع في اللحظات الأخيرة، تماماً كما يضيع مجهود فريق رياضي بأكمله في نهاية المباراة، أو تضيع حياة مسافرين على طائرة أو باخرة قبل الوصول إلى محطتها الأخيرة بلحظات.
اللحظات الأخيرة مهمة وخطيرة، بل وحاسمة. وحياتنا مليئة بكثير من تلك اللحظات الأخيرة. نعيشها كل يوم عشرات المرات. نعيشها مثلاً ونحن نترك منازلنا ذاهبين إلى العمل مودعين الأهل. ونعيشها ونحن نغادر مكاتبنا مودعين الزملاء في طريقنا إلى البيت. ونعيشها عند الخروج من ملعب رياضي بعد حضور مباراة للكرة أو عند الانصراف من قاعة مسرحية، بعد مشاهدة عرض فني. نعيشها ونحن ننتهي من جمع مستلزماتنا المنزلية من إحدى المتاجر ثم نكتشف بعد أن نصل إلى المنزل أننا نسينا بعضها في اللحظات الأخيرة. ونعيشها ونحن ننهي إجراءات الجوازات بالمطار قبل أن نتوجه إلى الطائرة. ونعيشها بقلق ونحن نتجاوز إشارة مرور وهي تتحول من اللون الأصفر إلى الأحمر. ونعيشها ونحن نودع ضيوفا وصلت زيارتهم لنا إلى لحظاتها الأخيرة.
اللحظات الأخيرة هي الماضي الذي نخلفه وراءنا باستمرار. عندما نسترجعها نتساءل عما كنا نفعله خلالها؟ ماذا قلنا وكيف تصرفنا؟ ولأنها لحظات متجددة ومتراكمة، فكثيرا ما لا تسترعي انتباهنا حتى نتوقف عند معانيها. فالمألوف منسي. أكثرنا يعتبر تلك اللحظات مجرد ماضٍ تجمد أو تاريخ انتهى أو روتين وتكرار لا يستحق الاهتمام، مع أن بعض تلك اللحظات قد لا تكون فقط أخيرة وإنما ختامية لا عودة بالمرة من بعدها؟
فمع أن الأمثلة السابقة كانت للحظات أخيرة دنيوية، تعتبر عادية لأنها تجري معنا كلنا، إلا أنها قد تكون أيضاً آخر ما يمر بنا في حياتنا كلها من أحداث، قبل أن نترك الدنيا إلى تراب يطوينا وآخرة تأوينا. ولهذا فاللحظات الأخيرة ليست فقط هي الماضي الذي يتكرر، كذهابنا كل يوم مثلاً إلى العمل، وإنما قد تكون هي الماضي الذي لا يعود. ولذلك فهي تستحق منا أن نستحضرها، لأن لحظاتنا كلها لو تأملناها تبدو كما لو كانت أخيرة.
كم استرعى انتباهي اللحظات الأخيرة في حياة أناس عشت بالقرب منهم مثل أبي -رحمة الله عليه-، أو سمعت قصصهم عندما كانوا ملء السمع والبصر. أذكر أبي عندما قال لنا «تصبحون على خير» ثم مضى لينام. لم أكن أدرك ليلتها أنها كانت لحظاته الأخيرة. وأذكر قصة ذلك الجندي المفعم بالأمل وهو يستعد للعودة إلى أسرته، في زيارة لعدة أيام بعد ستة أشهر قضاها على الجبهة، لكن لغماً انفجر تحت قدميه في اللحظات الأخيرة قبل خروجه من المعسكر لتنقلب فرحته إلى فاجعة لأهله. وأذكر ذلك المطرب المعروف الذي عاش لحظاته الأخيرة وهو يشدو على خشبة المسرح دون أن يعلم أنه سيخر ميتاً أمام جمهوره. وأتذكر مأساة لاعب كرة القدم الكاميروني «مارك فيفيان فويه» الذي عاش لحظاته الأخيرة على أرض ملعب نادي ليون في فرنسا خلال بطولة كأس العالم للقارات عام 2003 حيث سقط في قبضة الموت، دون أن يلمسه أحد وبلا أية مقدمات تشي أنه سيغيب عن الدنيا إلى الأبد. وهناك قصص أخرى لا حصر لها عن اللحظات الأخيرة في حياة كثير من الناس تتراوح بين من قضوها في مشاهد فاضحة، وتصرفات مخزية وبين من قضوها في أعمال طيبة وطاعات كريمة.
إن تذكر اللحظات الأخيرة ضرورة أخلاقية وعقلانية يجب ألا تفوتنا في أي يوم. فالتفكير فيها يعيدنا إلى رشدنا ويحذرنا من الإفراط في الأمل، ويمنعنا من الغرور بالنفس والإعجاب بالذات. إنها اللحظات التي تُذكرنا بضعفنا فلا نستعلي وبحقيقتنا فلا نغش. هي لحظات صادقة تهون علينا الجزع وتخفف ما يعترينا من غضب لأمر كنا نتلهف عليه ولم يكن لنا نصيب فيه. إن تذكر اللحظات الأخيرة قادر على أن يدفعنا إلى اتقان ما نعمل أملاً في أن يكون آخر ما نتركه في الدنيا نفعاً يتذكره من يأتون بعدنا.
اللحظات الأخيرة أقرب إلى فلسفة حياة، إن لم تكن هي فلسفة الحياة. هي رؤية شاملة للذات والكون والوجود. التفكير فيها يدفع إلى مزيد من العمل لكنه أيضاً يؤطر الطموح ويرشده. فقد يكون هذا المقال هو الأخير، وقد يكون يوم العمل الجديد هو الأخير، وقد تكون تلك الزيارة هي الأخيرة. وقد يكون هذا الراتب هو الأخير. وقد تكون هذه الجمعة الأخيرة، وليس في ذلك تشاؤم أو سوداوية بالمرة وإنما هي العقلانية والواقعية بعينهما. فكل بادئ سينتهي وكل أول له آخر.
الأمر وما فيه أن كل بادئ يحسن أن يدقق في كيف سينتهي. إنها مسألة «الفينيشنج» أو «التقفيل» التي يجدر بالإنسان أن ينتبه إليها ويعتني بها؛ لكيلا نترك مكاتبنا ومنازلنا ومؤسساتنا وحياتنا كلها في نهاية المطاف بمنتج رديء، وإنما بإتقان يشجعنا عليه تقبلنا بأننا دائماً نقف عند الأمتار الأخيرة، بل وربما وصلنا إلى اللحظات الأخيرة.