+ A
A -

لم يَكن أكثر قهرا للرجال وأشدّ وطأة على قلب مالك بن دينار مِن فقدانه لصغيرته، نَعم، إنها صغيرته التي هام بها حُبّاً وتعلق بها فؤادُه كُلَّ التعلق، كيف لا وقد انتشلَتْه من مُستنقع المعاصي التي غرقت فيها قدماه حتى اشتاق إلى أن يتزوج.

تزوج مالك بن دينار، فإذا به يُرزَقُ بمولودة أنثى، وهي نفسها الأنثى الصغيرة التي غيرت حياته أكثر من 360° لتُلَقِّنَهُ درسا في تقديس النعمة، المولودة الأنثى التي تنفض عن لحية أبيها غبار الأيام المتعِبَة، وتمسح على جبينه بمنديل الحُبّ الذي يَعرف كُلُّ أبٍ كيف يَسعه ذلك المنديل المبَلَّل بماء ورد الوفاء لِيَمتصّ الشوائبَ، شوائب الزمن الغدَّار الذابح بالآهات، وشحومَ الظلمات.

لِنَقُلْ إنها ظلمات ليل التجربة الْمُرَّة التي لا يَجد فيها الأبُ المسكين إلا أصابع صغيرته – ابنته التي تَلكمه بالكَفَّيْن جاهلة أنه يستمتع بدفء براءتها لا بانتصارها عليه واهمةً، تلك الأصابع الصغيرة وحدها تُعيد ترتيبَ أوراق حياة الأب، وتَلتقط ما انكمش منها لتقبض عليه بطريقة القابض على النار، حتى لا يُصيب أباها بُؤسٌ يَمتد من عين الإحباط إلى كتف الاستسلام.

وتأتي تجربة الموت الصعبة، موت صغيرة مالك بن دينار، فإذا به يَعود إلى ويل السقوط في حفرة المحرَّمات، يَسقط، يَسقط بِوَعيٍ مع الاختبار، علَّهُ ينسى فقدانه لحياة ثانية أهدتْهُ إياها ابنتُه الراحلة قبل أن تَنحني مثقَلةً سنابلُ الطفولة.

يَعود مالك بن دينار بوعي، وبلا وعي إلى حلقات المجون الصاخبة بِمَنَافِيها الحاملة لِعَار زلَّة الاختيار، زلة الابتعاد عن حبل الله، وإذا برؤية هازِمة، مُلظية، تتسلل إلى خدر مولاته لِتُجَرِّعَه (وهو على وسادة الأحلام، أو سَمِّها الكوابيس الْمُنجية) شيئا من جبروت دهشة العرض بين يديْ ربِّكَ، وإذا بمالك بن دينار تَصفعه الدهشة، تَصفعه بمكواة أهوال يوم القيامة الذي تَشْخَصُ له الأبصارُ كما تُذكرنا بذلك الآية 42 من سورة ابراهيم.

ومرة أخرى، تَأتي حبيبةُ أبيها، صغيرةُ مالك بن دينار، تتسلل إليه في جوف ليل الحُلم لِتَكون هي نفسها العمل الصالح الذي يُنجي مالك بن دينار من عذاب الحساب، ومسامير نعش الفِرار من سطوة العقاب.

صَدِّقُوا، صَدِّقُوا يا طيبينَ، أن كل ابنةٍ رَزقكم الله بها لَهِيَ نعمة عظيمة، واجتهِدوا فقط، اجتهِدوا كل الاجتهاد لِتُرَبُّوا بناتِكم تربية صالحة تَجعل من صغيرتكَ عَمَلا صالحا يَقودكَ إلى الجنة، فيُطعمكَ من تفاحة الرضى المشتهاةِ حَلالاً، ويَسقيكَ من زمزم الحنان الذي لا يَكبر عن طلبِه إنسان.

ولا أحدِّثُكًم، لا أحدِّثُكُم يا أيها الطيبونَ عن مجمَر يَشتَعِل في قلب المحزون بين فقدان وحرمان، وما أدراكُم ما لَوعة خسارة شقائق النعمان!

إنهنّ البنات، فأكرِموا بَناتِكُم، وكَرِّموهنّ وهُنّ حيّات لا بعد الممات، كَرِّموهُنَّ بالذِّكْر الطيب والتربية النقية وكُلُّكُم راعٍ، ولْيَكُنَّ مَداخِلَكُم إلى جَنَّة الرحمان التي يطمع فيها العبدُ الظمآن.

د. سعاد درير

copy short url   نسخ
02/02/2025
20