حمد حسن التميمي
قيل إن رجلاً جاء إلى سقراط يتبختر في مشيته ويتباهى بجمال هيبته وأناقة مظهره، فقال له سقراط: «تكلم حتى أراك»، ويقصد الفيلسوف اليوناني الشهير بمقولته تلك أن قيمة الإنسان لا تكمن في مظهره الخارجي، بل فيما يحمله من أفكار ويكتنزه من معرفة يعبر عنهما عندما يشرع في الكلام.
فإذا كنت تريد أن تعرف قدر امرئ ومدى علمه ومستوى أخلاقه، فعليك أن تصغي السمع له وتتلمس من وراء كلماته التي ينطق بها حقيقة أمره.
وعليه، ما أكثر أصحاب العقول الفارغة والنفوس الضعيفة في مجتمعاتنا المعاصرة التي استشرت السطحية بين جنباتها، وأصبح الإنسان فيها عبداً للمال لا هم له سوى جنيه وزيادة تدفقه.
إن العالم الجديد اليوم بما أتاحه من وسائل التواصل المتنوعة أصبح للأسف الشديد مرتعاً للسذج، وحقلاً مفروشاً بالأزاهير لكل تافه يجد في متناول يديه كل ما يلزمه لنشر أفكاره الهابطة، ومنصة عالمية لكل جاهل يريد أن يعبر عما يجيش في عقله المتهالك ووجدانه الضحل من أفكار ومشاعر دونية لا تسمن ولا تغني من جوع.
ضمن هذا الواقع الحديث، قلما تجد شاعراً حقيقيّاً تعب كثيراً حتى أتقن نظم الشعر، وفيلسوفاً مخضرماً أفنى عمره في البحث عن الحقيقة، وكاتباً مبدعاً لا مجرد دخيل على عالم الكتابة، وحكيماً عالماً بحق ينير الدرب أمام الضائعين، لا مدعياً كاذباً يضلل الناس ليكسب المال والشهرة.
بنظرة سريعة، يمكنك أن ترى كمية الهراء المتداول على منصات التواصل الاجتماعي، وكمّ الأفكار المضللة والسوداوية والسخيفة هنا وهناك؛ لأن التطور التكنولوجي أعطى لكل إنسان على وجه هذه المعمورة القدرة على قول ما يريده في الوقت الذي يريده.
بضغطة زر صغيرة يمكنك الآن أن تسجل مقطعاً مصوراً لنفسك وأنت تدلي برأي في أي مسألة حياتية، حتى لو لم تكن تملك أدنى فكرة عنها، أو تكتب أي شيء يخطر في بالك خلال دقائق معدودات وتنشره ليقرأه الناس في مختلف الأقطار.
فلا غرابة أن تشهد في هذا العصر عشرات القنوات التي يدعي أصحابها خبرتهم في مجال الطب وهم لا يملكون أدنى خبرة فيه، وقنوات أخرى يحاول روادها استقطاب الناس بما يعرضونه من محتوى سطحي خفيف يداعب حاجة إنسان اليوم إلى الكسل والراحة وتوقه إلى الهروب من الواقع الأليم والمسؤوليات الكبيرة الملقاة على عاتقه.
لكن كان وسيبقى أصحاب الأقلام المخملية والعقول الذهبية رمزاً وقدوة لغيرهم مهما استبد الجهل والسطحية في المجتمع، وكان وسيظل أصحاب الفكر الضحل والمتعجرفون، لا شيء سوى محض غبار متطاير مهما طال بقاؤه في الهواء، إلا أنه سيتلاشى بعد حين.
تكلم حتى أراك؛ لأن قيمتك لا تكمن في لباسك أو أموالك أو أي شيء تملكه، بل تكمن فيما يعشش بداخلك من أفكار وقيم ومعارف، فكم نحن أحوج الآن إلى من يأخذون بأيادي الشباب العربي على وجه الخصوص نحو عالم أفضل، إلى من يطرحون محتوى قيّماً ينهض بالوعي المجتمعي ويؤسس لأجيال تتسلح بالعلم والمعرفة.
أما أولئك السذج الجاهلون ممن يشوهون الذوق العام ويهبطون به إلى الدرك الأسفل عن قصد أو دون قصد، ليسوا في الواقع سوى عبئاً على المجتمع وآفة يجب التصدي لها حتى لا تصبح ظاهرة واسعة الانتشار، كما يجري في الوقت الحالي لسوء الحظ.
لكل إنسان فينا دور في هذه المعادلة، فإذا كان المتحدث غبيّاً فالمتلقي يملك عقلاً يميز من خلاله بين الصواب والخطأ، بين المحتوى الجاد والمحتوى العبثي، بين الطرح القيم والطرح الهابط.
وعلينا جميعاً تقع مسؤولية النهوض بالمجتمع، والارتقاء بالأمة، وتعميق القيم النبيلة فيما بيننا، إلى جانب تعليم النشء أن قيمة الإنسان فيما يملكه من أفكار بناءة ومعرفة واسعة وخلق رفيع، لا فيما يحوزه من مال أو جمال أو نفوذ.

www.hamadaltamimiii.com