+ A
A -
مهنا الحبيل
باحث عربي مستقل - مدير المركز الكندي للاستشارات الفكرية
كان اسم سعدية مفرّح يتردد على مسمعي من خلال ما أتابعه من أنشطة أدبية أو يبرز لي في السوشيال ميديا، لعل مبدأ ذاكرتي عن هذه الشخصية كان في أخبار أروقة الأدب في مسقط، وعُمان ذاتها لها بحر ذوق أدبي وسردي مختلف، الرمزُ الأدبي الحداثي في عُمان له عمقه الخاص ربما لفارق بحر العرب، لما بعد مضيق هرمز في الخليج العربي.
ولقد ازدحمت في التسعينيات وما تلاها، مواسم قصائد المفردات وسرديات الأدب الحديث، ولستُ هنا في معرض النقد أو التقييم فلاتجاهاته نساؤه ورجاله، لكن هناك جغرافية إنسان عائمة وجغرافية هائمة وجغرافية حالمة تتنافس في حشوده، أفهم الهائمة في بوحها الفكري أو الإنساني أو ضمير الوجدان المستتر، ذلك الضمير هو حقٌ مفرد للذات في عالم الألسنة والخطاب، والجدل قائم هنا على مرجعية التحكيم الأدبي لا العقائدي، في نظرية موت المؤلف وحياة النص ويزعم البعض خلوده، لكنه خلود نسبي يمحوه الدهر.
المهم هنا أن نظرية موت المؤلف (الحيّ)، قد تكون فتحاً للإبداع لكنهاً أيضاً مخرجاً للهروب، وللعبثية التافهة في بعض النصوص، أو بعض الرموز المستترة وراء غموض النص الركيك، وهذا ما يُفسد على محبي الشعر الحديث رونق التقلب بين رمزية التأويل وقرع المفردة، ولذلك تميّزت نصوص سعديّة ولك أن تبحر في قصتها، حين رحلت مفردتها إلى لغات العالم، فتذوّقت مرافئها النص المترجم الذي روته سعدية في رواقها البدوي.
هكذا تقول سعدية في تعريف بصمتها، بدوية متصلة بحاضرة وحضارة، حيث جدائل الفتاة وخضابها له توقيعات التراث والتقدم المدني معاً، تقدمٌ لا يُلغي أصالة الروح وشعلة حملُ الحضارة العربية، التي بُعثت بها الرسالة السماوية من جديد، لكن حديثي هنا أيضاً ليس عن مفردات شعر سعدية، ولكن عن سعدية المُفردة.
نحن اليوم في صلف المشاعر وانحطاط المضمون التعبيري للسلوك الشخصي، لحشود من المثقفين والمنصات الإعلامية، تحت بازارات السياسة ومحاربة الحرية والشراكة الشعبية، والصراع الأيدلوجي، بتنا في صحارى مقفرة، وبؤر اجتماعية قاسية.
ومن يجمع بين النص الأنيق الجميل، وروح الأخلاق والجذور الفكرية لأهل الخليج، والأدب والانفتاح مع الجميع، أحسبهُ طائر ذوق وربيعٌ خطابي، ومحفل تعامل رفيع يندر اليوم أمام مفاوز التوحش النفسي الذي هيمن على المشهد.
ولذلك كانت سعدية مفرّح وكأنها ذلك النسيم يظهرُ كأنهُ قادمٌ من بعيد، ولكنه من العمق القريب، عُمقُ هذا الساحل من بيت الشعر المتاخم للبحر، هل رأيتم خِيماً تُلاصق الساحل؟
نعم هي تلك الأنفس المتوضئة بالطهارة الأخلاقية لأهل الخليج الأوائل، كان اللؤلؤ يسعي في مروءاتهم، فلم تنتصر العنصرية عليهم، إلا بعد أن نقض نفطُ الكراهية، عرشان الساحل وبيوت الشعر المطمئنة المتجاورة.
وفي لقاء تليفزيون القبس الذي أجرته الإعلامية أسرار الأنصاري، مع سعدية مفرّح، وكان لقاءً مميزاً في أسئلته وحواره، ضمّت سعدية من جديد تلك الخيوط المختلفة المتحدة التي جمعتها، في حياتها الأدبية وهويّتها الفكرية، وهكذا وجدتُها في لقاء مشترك لندوة نظمها مركز ابن خلدون في جامعة قطر عام 2019، فالأديب السفير الصادق، هو من تسفر حقيقته لتسابق شعره، فيجول النص في مسرح الإنسان والمكان حيث كان من أهل الخليج العربي، وحيث كان في وطنه العربي وأسرته الإنسانية.
أما الصور المزيّفة المتكلفة شعراً، الغارقة في تيه الذات المسكونة في الغرور، فلا يكاد النص يصل لأكثر من تصفيق الجمهور المجامل، نعم بعض الشعر له قرعٌ يقتحم الوجدان قبل أن يضج رونقه في المسامع، ويُغطّي على أزمة الذات البشرية، برمز الفكرة الشعرية وقالبها المذهل، لكن في حالات البعض، لا نصٌ يطرب ولا ذات تُحترم، هنا يتحول الغموض لمجرد كومبارس يختفي فيه الشاعر العاجز. أما في جمهورية سعدية، فالأدب رسالة غير متكلفة، ووحي الرمز مدللٌ بتوقيعات رقيقة تعبر فيها الرومانسية حيناً، وعبرات الأفكار حيناً آخر، وبعض دمع سعدية الشعري، دليل لمنبر تلك الروح، ويالها من روح لو أن أدباء الخليج تنادوا إلى ساريتها، وحرروا إنسانهم من جثامين الوطنية العنصرية الكئيبة، إلى وطن الأخلاق ورايات المبادئ الفكرية.
copy short url   نسخ
07/03/2021
1975