+ A
A -
في عزّ مواسم حُزني الممطرة أراني امرأة أخرى. كثيرا ما أستغرب تركيبتي! امرأة أنا كأن في داخلي اثنتين وأكثر! استيقظتُ على وقع خُطاها أُمِّي الحبيبة التي لا أجرؤ على أن أخبرها كم أُحِبُّها، وكم أشقى كلما خَيَّمَتْ على بابها غيمةُ حزنٍ. وددتُ لو أمتصّ كلّ حزنها لأضاعف منسوبَ شجني وهمّي شريطة ألاّ تشقى أمي. لأني أحفظها عن ظهر قلب يكفي أن أستشعر وقع خُطاها لأحدِّد من موقعي على السرير وقبل أن أفتح عينيّ ما إذا كانت أمي مرتاحة البال ومبتهجة أم مجروحة تتألّم. ما أن تحسّستُ غربةَ خطى أمي حتى سألتُها وأنا لم أنته بعد من تغيير ثياب نومي: «ماذا حلّ بك يا أُمِّي»؟!
خرجتُ للتوّ لأقرأ في عينيها ما قرأته. لكم ينفطر قلبي كلما رمقتُ شوائب الحزن متى حطَّتْ على شرفات عيون أمّي وأبي، أمي وأبي اللذين لا ينافسهما في حبي لهما منافس، ولو فكَّرْتُ مجرد تفكير في أن مكروها قد يحلّ بهما (لا قدَّرَ الله) لا أدري كيف أشعر بأن سقفا بحجم السماء يسقط فوق رأسي!
مسحة الحزن تلك التي وقفتْ عند باب عيني أُمّي جعلتني أختلس النظراتِ حتى أُكَذِّبَ إحساسَها بأنني كشفتُ أوراقها. معقول أن أُظهِرَ لها من المزاح وخِفَّة الروح (التي جعلتها تبتسم في وجهي) ما لا أقوى أنا نفسي على الجمع بينه وبين رمال شجني التي تكتسح ضفافَ قلبي! أمعقول ذاك رغم كل الألم الذي سبّبه لي أثرُ سحابةِ حزنٍ استقرّتْ عند حدود عينيها! فما بالك إن حلّ محلّ السحابة أثرُ دمعةٍ ألمحها على طرف عين أمي! الجمع بين النقيضين (خفّة الرّوح وشدّة التأثُّر) شيء ليس بالهيّن، وربما بسببه يشعر المرء بأن بركانا يندلع في صدره. قد أتحمّل أَيَّ شيء في حياتي، مهما آلمني، لكني لا أقوى على تحمّل ذَرَّةِ شَجَنٍ تشقّ طريقَها إلى قلبٍ أُحِبّه. للكاتب(ة) منظور خاص ورؤية دقيقة للأمور. لهذا فأنا أقضي الساعاتِ أحيانا في تأمّل مشاهد تكاد تكون عابرة، في أي نقطة على الأرض، لكنها تترك في نفسي أثرا قَلَّ نظيره.
كلما نظرْتُ إلى أُمّي وأوغلْتُ في التفكير المتزامن مع قوة إحساسي بها أُقَدِّرُ مدى حاجتها إليّ وهل من الممكن ألاّ أفارقها بجثتي، أما بقلبي، فأنا لا يمكن أن أغفر له ألاّ يدقَّ لها أو أن يتهاون في الإحساس بها مهما أبديتُ العكسَ. في المقابل أشعر بعمق المأساة حين أذكر سقوطَ حُلم الأمومة من سلّة أحلامي الصغيرة التي كثيرا ما أضيعها غير آبهة بالذي قد يأتي ولا يأتي.
أتساءل: لو أنجبْتُ هل كنتُ لأرقى إلى مستوى عطاء أُمّي وأبي؟! قد يسهل عليك أن تُجَسِّدَ أي دور على خشبة الحياة، لكن لا تتصوَّرْ دورا أصعب من أن تكون أبا أو أن تكوني أنتِ أُمّاً. الوالدان، بما كنزه الله في قلبيهما من الحُبّ، قد يبيع الواحدُ منهما نفسَه إرضاءً لفلذة كبده وحرصا على راحة فلذة كبده وتحمّلا لتمرّد فلذة كبده.
لا أشعر بأنني قد أكون يوما في مستوى هذا الإنجاز الذي لا يُعادله إنجاز مع أنني في قرارة نفسي لا أنكر أنني أذوب حرمانا من تنسُّم وردةِ الأمومة العَبِقَةِ التي تعطي لحياتك معنى. فهل تكون المرأة المحرومة من الأطفال أكثر قابلية لأن يتفجر فيها إحساس الأمومة؟! هل من باب تبكيت الضمير أن تُحاسب الواحدةُ نفسَها على تجاوز حُلم الأمومة وهي تنصهر شوقا إلى تحقيقه حدّ هذيان دواخلها؟!
أعود إلى أمّي التي ساءتني حالُها ذاك اليوم، لكني بعنادي وشطارتي بذلتُ ما في وسعي لأجعلها تبتسم للحياة التي من النادر أن أبتسم لها إما لأنها لا تستحقّ وإما لأني شربْتُ من مقالبها ما جعلني أنبذ فَتْحَ نافذتي عليها إلاّ مُكرهة. ما أن لمسْتُ دفء ابتسامة عيني أمّي حتى شعرتُ بزهو المنتصرة، وبادلتُها ابتسامةَ الحُبّ وأنا أُضْمِرُ في أعماقي صَرْخَةً لا يمكن لِفَمِي أن يُتَرْجِمَها. تلك صرختي المقطوعة الأنفاس التي جعلتني أهوي في بئر الحرمان وأنا أعترف لنفسي بحاجتي إلى قلبِ طفلةٍ تناديني بأَحَبّ الأسماء إلى قلبي، تكبر معي، وكلّما قطعْتُ خطوةً على طريق العمر الموحش أجدها تنبض لي على الشاكلة التي أنبض بها لأمّي، أجد قلبَها يستوعبُ شجني في غمرة حصار زمني، أجدها تربتُ بِكَفِّ قلبها على كتفِ قلبي، تبني لي من خوفها عَلَيَّ جسرا يربطني بجنّة الحُبّ، وتخبّئ لي في صدرها الدافئ سريرا ووسادة تُهيّئهما لي كلّما ضبط التعبُ عَقارِبَه على زمني.

بقلم : سعاد درير
copy short url   نسخ
07/07/2016
1293