+ A
A -
مهنا الحبيل
باحث عربي مستقل- مدير المركز الكندي للاستشارات الفكرية
لماذا لم يُقدّم الشرق نموذجاً مُصلحاً له مرشداً لغيره، خاصة مع بروز أزمة الحداثة وتأثيراتها على حياة الإنسانية، ولماذا قبل أن نفهم المعيار المعرفي، الفارق لمعادلة الفلسفة الإسلامية، لا يُجاب عن الانحطاط الأخلاقي والقيمي في الشرق ذاته، واضطهاد المرأة والعنف السلوكي والاجتماعي، والغش والتفنن بسرقة حقوق الناس والتعصبات الاجتماعية والأيدلوجية، فضلاً عن صراعات الشرق والخطابات العنصرية المتعددة، وكيف أن هذا الواقع صَدّر إلى المهجر.
فمع تأثر الشرق بالهيمنة الأكاديمية لعالم الشمال المتفوق، فقد انحسرت مساحة الأخلاق لديه كثيراً، وهو ما يفسّر تردي واقعه الاجتماعي، لقد قطع المشروع الكولونيالي الغربي، بعد الفساد السياسي والسلطاني الشرقي، تطور علم المعرفة الأخلاقي، وقد ظل هذا المدار المعرفي، وأخلاقيات القيم، كما هو الموقف من العلوم الإنسانية والطبية والكيمياء مستمراً في حضوره، رغم الاستبداد القديم.
غير أن الميراث الأخير لما بعد الاستعمار حطّم كثيرا تلك البنية الأخلاقية في المعرفة والسلوك الاقتصادي، والإحسان الاجتماعي، الذي ينبع من مركزية القيم، والمراقبة الضميرية، المرتبطة بوجدان الروح وخالقه، وبالتالي بات الشرق في حالة سيئة في الواقع الحياتي، وتفاقم وضعه، كون أن النظم الإدارية، التي خلقتها عهود الاستبداد الحديث بعد الاستعمار، هيئت لروح الصراع والانحياز للنظم الإدارية الفاسدة والمنحازة.
فيما استطاعت الدولة المدنية في الغرب ضبط العلاقات بعد رحلة الحروب، وفقاً للتشكلات الخطابية من إيجاد أخلاق إدارية مصلحية للتعايش، صمدت زمناً لكنها عادت للتصدع اليوم، في قيم الأسرة والمساواة والعدالة الاجتماعية والاقتصادية.
وتطورت الاضطرابات لتشمل: العلاقة الفردية مع المجتمع والذات، والعلاقة الجماعية بين الدولة والجماعات البشرية، والدولة والطبقات الاقتصادية، وكل هذه المدارات متصلة في الحقيقة بالفارق القيمي للمعرفة الإسلامية الذي اجتثه الغرب.
إن هذا الاضطراب اليوم قد تطور وأضحى يسعى لنوع من المساكنة الاجتماعية (الجندرية)، للبحث عن السعادة، عبر تفكيك قيم الأسرة، وتفجير جذور التخلّق الإنساني، وتشويه حركة تطور الطفولة وحقوقها المعنوية، وتكريس معيار اللذة البهيمية، دون وضعها في سياق الجنسانية الصحيح للجنسين، فضلاً عن فصل الروح القيمية، وهكذا فإن التشكل الخطابي أيضاً صنع نوعاً آخر من الاضطراب، وخلق سوق الموارد البشرية الجديدة التي أقصيت في هوية تشكلها قيم العدل والضمير والإحسان.
هنا يتشكل تقاطع من جديد في أزمة الاشتراك لتفرعات الحداثة المادية، وهي كذلك تشترك في التموضع الأكاديمي الذي لا يعطي مسارات النقد الأخلاقي أي فرصة، لتحديد التشكيل الخطابي المضر، على الذات ثم على المجتمع، تحت هذه الكماشة، في تسليح الحياة البشرية.
ولذلك فإن ما يسميه وائل حلاق في قصور الاستشراق مرض اجتماعي كرسته الحداثة المادية هو مزدوج التأثير، في تعريف قواعد السوق بين القيم والمادة، أو في تعريف حياة الإنسان وعلاقته الجنسانية، والخلاف بين تشكلاتها الخطابية، بل حتى بعض الاحتجاجات والمسارات الأخلاقية في الفلسفة المعاصرة لا تُعالج أزمة اتحاد الجذر الفلسفي والسلوكي فيهم.
ولعلنا نلحظ اليوم مقاربة مهمة بين التيارات الحديثة، سواء رُبطت بالحداثة أو ما بعد الحداثة، والتي تقدم ذاتها معارضة يسارية، وتتمكن ثقافتها من مؤسسات السوشل ميديا، أو الصناعة السينمائية، وهي تواجه زعماء أو سياسات رأسمالية غربية، وتظل خلافاتها محصورة في قاعدة لعبة شكلتها نماذج خطابية متحدة الفلسفة.
وربما أن بعض سياقات التطرف العنصري وواقع الأزمة في داخل الغرب وذوبان مساحة العدالة الاجتماعية، لصالح نماذج، شكلها الهيكل الخطابي، بما فيها ما وضع تحت مسمى (الديمقراطية الاجتماعية)، برزت اليوم كقوى معارضة ضمن الأقليات، لكنها في الحقيقة ليست أقلية أصلية أضطهدتها، أو حاصرتها الحداثة المادية أو التوحش الرأسمالي للشركات، وإنما وُلدت من ذات هذه التشكلات الخطابية التي رفضت ونحّت بالكلية المعرفة العلمية والأخلاقية.
لقد بات العالم بالفعل تحت نَمْذَجَة هذا السوق، ولم يعد يستطيع المقاومة، فهو يدار عبر ثقافة شركات ضخمة تملكها الكولونيالية، التي لم تتغيّر إلا في عالم التصوير وفي جغرافيا الميدان، فيما بقيت قوتها المهيمنة، مفروضة على العالم، وحركة التفكير الإنساني، إلا من مساحة تمرد فلسفي حر، نأمل أن يتصاعد لصالح الأسرة الإنسانية جميعاً.
copy short url   نسخ
06/09/2020
3108