+ A
A -
في كل مواسم اسطنبول هناك لحنٌ خاص، تبدو هنا عروس الشرق للإنسان العربي رحلة خاصة، لا علاقة لها بجدل السياسة والدين المحتدم مع تركيا أو من تركيا، وإنما هو ذلك الرابط النفسي الاجتماعي، وهو رابط لا يخلو من حب واحترام وتبادل روح، مع إنسان تركيا الشرقي.
لكن الصخب السياسي الأيديولوجي، لم يترك مساحة اليوم، لتكون العلاقة حيوية سلسة، دون تكلف، فقد قطعت حروب الثورة المضادة، وما أعقبها من ردات فعل، على هذا الضمير العائد، عودة مختلفة تجمع الشرق، دون حصون ولاء مشترطة، وإنما جسور قيم وفكر، تصنع لنهضة الشرق أفقا مختلفا.
ذهب ذلك كله في زخم الأحداث، لكن بقيت لاسطنبول ترانيمها، أغنيات النورس ورقصاته، إيقاع البحر، نسائم الهواء العليل، صوتُ الزامر حول السميت، أو الجاي الأسود أو بائعي المناديل، حيث دمع المهاجرين العرب المتحدين في المعاناة، من مستبديهم.
ولي فيها تواقيع لا يمحوها الزمن، في كل موسم أتوجه لإحياء قلبي بها، عهد بالمكان وموسيقى الزمان، وحين يُطلَق وحي الآذان، في الغسق أو في الفجر، فأنت هنا مع سر الأرض التي حوتها اسطنبول، واشتاقت روح العربي لها، هي بذاتها، قبل أي أمرٍ فيها أو حولها.
ولا تزال حشود المهاجرين تتقاطر، وبغض النظر عن أي زاوية سياسية، أو نزاعٍ فكري، فإن معاناة العرب، تحتضن جزءا منهم تركيا في ملايين البشر، من سوريا وغيرها، فباتت تركيا اليوم ملتجأ لهم، هناك حكايات قاسية، وظروف مروّعة، في ظل هذا التلاطم السياسي والأمني الكبير، لكن يبقى أن هذه الجغرافيا، موقع محطة أو مستقر في زمن التيه العربي، مستقر يُستثمر ويَستثمر، في عجلة الحياة الصعبة.
وفي كل حال فهنا الخيام قد نُصبت، وتواصلت الأجيال عند غربة العرب التركيّة، وهنا لوحة غير مشهودة، وهي التداخل النسيجي بين العرب والأتراك، رغم صلف المواجهة العنصرية وضحاياها، غير أن طبيعة الإقامة والاندماج المكاني، كرّس واقعه على الحياة الاجتماعية.
لا نعرفُ كيف سيكون المستقبل، ولا كيف سيُستوعب العرب والأتراك، في شراكة الجنسية الجديدة ذاتهم، وهم الذين ستبقى قضاياهم عزفا من التنفيس الشعوري، أو حتى المعهد القومي للوطن الأصلي، لكن دورات الزمن، حين يَحين معادها، فهي ستتحول كما تحول إيرانيو المعارضة، في الولايات المتحدة الأميركية، ربما هنا تفصيل مختلف.. ربما لا نجزم.
غير أن طبيعة التحولات الكبرى، تغرس سسيولوجيتها، على الناس دون أن يشعروا، أن عجلة السنن الكونية سوف تدمجهم، في ظلال جديدة، بالطبع هناك في الظل تسويات سياسية، لكن لا سقف زمنيا لها اليوم، وهناك بعض الاستيعاب.
غير أن هناك كتلة تترسّخ جذور أطفالها وأبنائها في تركيا، وهناك رحلة حب زوجية جمعت الشباب الأتراك والعرب، فبُني بيتهم الجيد بين شاب وشابة، من الطرفين، لتبدأ حكاية تركيّة مختلفة، ستخرج لها بصمة ولو بعد حين.
أمام كل هذا، فإن هناك تيّبسا وتصحّرا في العلاقات الإنسانية والفنية والأدبية، ومشتركات الروح للمجتمع الشرقي، تهيمن على مسرح الحياة، فعجلة الرزق والمصالح، بين الطرفين، وعودة اسطنبول لزخم الصراع التقاطعي في الأستانة في آخر عهدها، رغم اختلاف الظروف.
سرق من الكثير ضمير القلب، وعزفُ الوجدان، ولغة التأمل العقلي، التي يمكن أن تجمعنا بدون مصالح نفعية، مع الإنسان التركي، بروحه الإسلامية أو بروحه الشرقية، بحضور الشقيق الكردي وحتى الفارسي ليس مطروداً من حنين الشرق، لكن المأزق الطائفي صنع جداراً سميكاً، في لعبة إيران وأنظمة العرب.
فما عسى الشباب الجديد أن يفعل اليوم، ليس خطابي هنا للشباب الذين عصفت بهم الظروف، وسيطرت عليهم، وجدانياً النزاعات السياسية، والصراعات الأيديولوجية، فيُصبحون ويمسون عليها.
وإنما في هذا التشكل الجديد، من ذوي الأعمار المبكرة، ما بين لاجئ مستقر بإقامة قانونية، وما بين جيل جديد اكتسب الجنسية الوطنية التركية، فهناك أمامهم سكة عمل ضخمة، وهدف نبيل عظيم، لو تحقق فسيخلق بين الأتراك والعرب، مواءمة تعيد تأسيس العلاقة والمشاعر، وتستعد إنسانياً وقيمياً لموجات صراع نخشى من عواقبها..
فيا أيها العهد الجديد لعرب تركيا، كونوا جيل الأمل المفقود، وحملة الشموع المضيئة.
بقلم: مهنا الحبيل
copy short url   نسخ
30/08/2020
2097