+ A
A -
من فسيفساء الحَرْفِ يتشكل عقدُه الثمين الذي تأبى حبّاتُه الانفراط حتى يستقيم لك الصِّراط.
هو، هو ومن يكون؟ هو برهان، ويقين هو. هو جداول جَمال تمتد من القلب إلى القلب ومن العين إلى العين. هو نخلةُ وَرَع.. هو غيمةُ عِتْقٍ آيلة للإمطار.. هو شُعاع رَجَاء.. هو سَفَر في ليل الخلود..
هو كتابة تُقاوِمُ المحوَ.. هو تأمل في مرآة المكاشَفة..
هو تغريدة، تغريدة وأكثر يصدح فيها صوت الْمُنَى ويتهادى على أمواج بحر العشق، العشق الحلو وحتى العشق المرّ.
هو صوتك وصوته وصوتها وصوتي الخفيّ..
هو أصوات مَنْ بحّت حناجرُهم لتضرب للحكمة موعداً مع الأنا، الأنا النائمة، بحثاً عن الأنا الناقمة على الدنيا ومَنْ هَواها ومَنْ هَوَتْهُ ومَنْ غَواها ومَنْ غَوَتْهُ.
هو الأسامي والمعاني والْمُتون..
هو الأماني والشجون..
هو الدَّبِيبُ والسُّكُون..
هو النشيج المدفون..
هو محكيات النفس وبوح العيون..
هو هو.. هو، هو ومن يكون؟ قليل عليه أن تقول عنه إنه هو الشِّعْرُ، شِعْرُهُ.
مهلاً، هو ليس أيّ شِعر، ففي حضرةِ مَنْ قاله يستحي الشعرُ ويتوارى..
السؤال: لماذا؟ لأن شاعرَنا هذا شاعرُ الحكمة، شاعر الموعظة، شاعر الصدق، شاعر النفس الأمَّارة بالسوء التي يُحَرِّضُكَ تحريضاً على لجمها وتقويم اعوجاجها واستئصال جذر زيغها وتعديل سلوكها..
هذا أبوالعتاهية يقف عند بابك..
في حضرة أبي العتاهية ينحني الشعرُ إجلالاً، ينحني ولسانُ حاله:
حتى متى تَصْبُو؟
حتى متى تَسْلُو؟
حتى متى؟
حتى متى يا فتى؟
حتى متى يا فتاة؟
حتى متى يا رجل؟
حتى متى يا امرأة؟
حتى متى يا أنتَ وأنتِ ونحن وهُم وهُنَّ..؟
هكذا يُجيد أبوالحكمة أبوالعتاهية العَزْفَ على أوتار قلبك ليخاطبَ عقلَك من حيث تشتهي عاطفتُكَ ويشتهي بصرُك وبصيرتك ووجدانك وروحك..
يتراءى لك شاعرُنا أبوالعتاهية في شعره مجاهداً، مجاهداً ونِعْمَ الجهاد:
«أَشَدُّ الجِهادِ جِهادُ الهَوى» (أبوالعتاهية)
يا لرفاهية المعنى وبلاغة التعبير!
بل لنقل أكثر يا لرِقّة التصوير وبذخ الإشارة وثراء الإيحاء والرمزية!
انظرْ إليه (أبي العتاهية) يقف عند بابك كالحارس الأمين داعياً محذراً، داعياً إلى الجهاد، محذراً من إساءة فهم هذا الجهاد، وما كانت دعوتُه الرَّجُلُ إلا من أجل صدّ هوى النفس وكبحه وبتر سيقانه..
أثمَّة شر أمرّ من شرّ النفس إذا أرادت بك سوءا؟!
هذا هو السؤال الذي لم يسأله أبوالعتاهية يقيناً، لكن من المؤكد أنه قدم الجواب الشامل.
مع نفسك تعيش أنتَ حالةَ صراع إن لم تَكُنْ «الحالةُ» حالاتٍ.
إنها قيود النفس المتذبذبة بين هوى الرغبة (ما تحثُّك عليه نفْسُك حثّاً استجابةً لِمَيْلٍ وانجذاب) وإكراه الواجب (ما تدعوك إلى التحلّي به فطنةُ العقل وحساباتُه الدقيقة):
«لِكُلِّ امْرِئٍ رَأْيَانِ رَأْي يَكُفُّهُ
عَنِ الشَّيْءِ، أَحْياناً، وَرَأْي يُنَازِعُ» (أبوالعتاهية).
مع نفسك أنتَ تَخُوضُ حَرْباً، حرباً لا تقتصر على أيام أو أشهر، لكنها تأكلُ منك أعواماً، حرباً تُنْفِقُ فيها عمرَك، ولا تنتهي الحربُ تلك إلا بنهايتك.
أقلنا: نهايتك؟!
معنى هذا أنه قد تمّ تحديد الرابح من الخاسر، فهل تتوقع خاسراً سواك في مشهد الجهاد المتمدد هذا الذي يكلِّفُك عمرَك؟!
بالتالي ما الحل لتلافي هذه الخسارة والتخفيف من وطأتها على الأرجح؟
مهلاً، مهلاً، يأتيك الفَرَجُ على يدي أبي العتاهية دائماً، إذ يُقدِّم لك الوصفةَ السحرية التي تُبْقيكَ على قيد النجاة: إنها الوقاية، الوقاية التي تَحُولُ دون انفتاح باب الريح، فتفوز أنتَ وتستريح، وذاك دون بذل جهد أو عناء.
صحيح؟!
أحقاً ثمة حيلة أو تدبير؟!
أجل، أجل، هذا ما يجيب عنه الشطر الثاني الذي يحيطك علماً بما يَجْدُرُ بك أنْ تُقْدِم عليه درءاً لكل سوء قد يلحق بك:
«أَشَدُّ الجِهادِ جِهادُ الهَوى
وَمَا كَرَّمَ المرْءَ إلاَّ التُّقَى» (أبوالعتاهية)
التُّقَى! التُّقَى ضَالةُ الضَّليل.. ولْيَكُنِ التُّقى نجواك وسلواك، نجوى نفسك وسلواها عن كل ما زيَّنه لها الشيطان من عشق وكل ما دبَّره لها من كيد حتى تَسُوسَها (نفسَك) بما ترتضيه لها من سياسة وكِياسة..
ولهذا ترى أبا العتاهية يشدُّك شدّا إلى مسلك التقى، ففي التقى دواء لكل ما تُكابده أنتَ الشقي بعيداً عن باب مولاك:
«اُنْظُرْ لِنَفْسِكَ يا شَقِي
حَتَّى مَتَى لا تَتَّقِي» (أبوالعتاهية)
لا تنسَ أن التُّقى مفتاحُ بابِ مولاك. التقى يُكَلِّلُكَ بِتاجَيْن، أحدهما السكينة والطمأنينة والآخر جلالك، ألا تراه (أبا العتاهية) يُصَرِّحُ لك بذاك ويصارحك:
«وإِذا تَنَاسَبَتِ الرِّجَالُ فما أرى/ نَسَباً يُقاس بصالحِ الأعمالِ
وإذا بحثْتَ عنِ التَّقِيِّ وَجَدْتَهُ/ رَجُلاً يُصَدّق قوله بفعال
وإذا اتقى اللهَ امرُؤ وأطاعَه/ فَيَداه بين مكارم ومَعال
وعلى التَّقِيِّ إذا تَرَسَّخَ في التُّقَى/ تاجان تَاجُ سَكينةٍ وجَلال» (أبوالعتاهية)
فما حظ التَّقِيّ من جزاء تُقَاه؟
حَظُّه ونصيبُه من الجزاء عُلُوُّ شأنه يوم الحساب ووَضاءَة وجهه (الصَّباحَة):
»للمتقين هناك نزلُ كرامةٍ/ عَلَتِ الوُجوهَ بنضْرةٍ وجَمال
زُمر أضاءتْ للحسابِ وجوهُها/ فلها بريق عندها وتَلالي» (أبوالعتاهية)
أبوالعتاهية مَلِك الحكمة وسلطان الزهد يستدرجك إلى العالم المثالي الذي يرسمه لك لتُجَرِّبَ الحياةَ بشكل لم تَرَه..
يدعوك أبوالعتاهية لا لتُعانِق الأماني وتبكي الأيامَ الخوالي، وإنما لتعقد مصالحتَك مع نفسك، وتَغْنمَ بإنقاذ نفسك من شَرِّ حُفرة تستدرجك إليها قدماك وعيناك وما جاورَ..:
«الآن يا دنيا عَرَفْتُكِ فاذْهَبي
يا دار كلّ تشتُّتٍ وَزَوال» (أبوالعتاهية)
الحياة ماضية، تلك الحياة لا تجد لها من المسميات أكثر من حُفْرة، حُفْرة تغمز لك وتهمس في أذنيك أن «أبحرْ في عينيّ»، حفرة تسمى الحياة، الحياة التي يُغيظك ويُغيظها ألا تلقي بنفسك في أحضانها، لكن هيهات أن تنال منها ما يرضيك على المدى البعيد..
الحياة ماضية، والدنيا فانية، فلا تُسْقِطْ من حقيبتك مراجعتَك لنفسك تأهُّباً لليوم المشهود الذي سيجمعك بمولاك والعيون تراك ولا تراك:
«الموتُ حقّ والدارُ فانية
وكُلُّ نفْسٍ تجزى بما كسبتْ» (أبوالعتاهية)
الموعدُ أَزِفَ، واللقاء على وشك، فَتَأهَّبْ لحساب مولاك:
«لا تنسَ واذكرْ سبيلَ من هلكا
ستسْلك المسلكَ الذي سَلَكا» (أبوالعتاهية)
تمرّ أنتَ من حيث مَرَّ من سبقوك، وكأس الموت في انتظارك، لا منجى لك سوى الترقُّب، لا حيلة لك سوى التأهُّب:
«هو الموتُ فاصنع ْكُلَّ ما أنتَ صانع
وأنتَ لكأسِ الموتِ لابدّ جارع» (أبوالعتاهية)
تأهبْ لموعد مولاك، فلا تدبير سوى تدبير الله الذي يُغنيك عن الحيل.
لذلك يدلّك أبوالعتاهية على زاد الطريق، يدلّك على الصحبة النافعة.
لكن مهلاً، هكذا يُنبِّهك أبوالعتاهية، إياك أن تقربَ صحبةَ الآمال:
«المرءُ يأملُ والآمالُ كاذبة
والمرءُ تَصْحَبُه الآمالُ ما بَقِيَا» (أبوالعتاهية)
أثمَّة مضيعة للوقت والرجاء أكثر من التعلق بحبال الآمال؟! الآمال الكاذبة التي لا تُغني من حيرة؟!
لذلك خيرُ الزاد الصحبةُ الصالحة:
«لعمرك لا شيء من العيش كلّه/ أقرّ لعيني من صديق موافق
وكلُّ صديق ليس في الله ودُّه/ فإني به في ودّه غير واثق» (أبوالعتاهية)
الصحبةُ الطيبة، هذا المراد والمبتغى. وليكنْ وليكنِ الصدقُ عنوانَ الصحبة، لماذا؟ لأن تَبَخُّرَ الوفاء يُشْقيك بأهل الدنيا:
«ولم أرَ كالدنيا وكشفي لأهلها
فما انكشفوا لي عن وفاء ولا صدق» (أبوالعتاهية)
بهذا ترى أن الصدقَ والوفاءَ أصبحا عملة نادرة، فكيف لك أن تتصور حَظَّ الإنسان المسكين من قيمتي الوفاء والصدق في دنيا قاهرة لا صوت فيها يَعْلُو على صوت المطامع؟:
«ومن كانت الدنيا هواه وهمّه
سَبتْه المنى واستعبدته المطامع» (أبوالعتاهية)
فهل من مجال للتحرر من أغلال دنياك؟!
يقيناً تبلغ أنتَ ذاك إذا جَدَّدْتَ عزمَك وثقتَك ويقينَك في مولاك..
تلك وسيلتُك الوحيدة للتخفّف من أثقال الدنيا التي تُبَيِّتُ لك النيةَ، نية النيل منك والرقص على حبال غفلتك وسهوك:
«تخفَّفْ من الدنيا لعلك أن تنجو
ففي البر والتقوى لك المسلك النهج» (أبوالعتاهية)
حتى متى تصبو أنت الْمُعَلَّق بالهوى؟! حتى متى تغفل؟! حتى متى تُغمِض عينيك الاثنتين وعينَك الثالثة قلبَك والموتُ يتربص بك؟! حتى متى يا فتى يا من تناسيتَ أنك بلغتَ من العمر عتياً ومضيت في عماك تلهو وتلعب مُولَعاً بصِباك:
«حتى متى تَصْبُو ورأسُك أَشْمَط
أحسبْتَ أن الموتَ في اسمك يغلط» (أبوالعتاهية)
كفى من الصبابة والصبا! هكذا يُنَبِّهُك أبوالعتاهية في دعوة لك منه إلى أن تُعيد رشدك وتستيقظ مما أنت فيه.
الحياةُ حَبْلُها قصير، لا تدري أنتَ في أي لحظة تُعفيك منها أو في أيّ فراغٍ تنتهي بك. فـ «ما كلّ شيء بدا إلا لينقضيا» (أبوالعتاهية)، بل «ولا شيء إلا له منتهى» (أبوالعتاهية).
لذلك دَعْكَ من مطامع الدنيا وإغراءاتها، فتلك ليست بأشياء تُغنيك، «ولكن غنى النفس كلُّ الغنى» (أبوالعتاهية)، من هنا ما عليك إلا أن ترضى لتَسْلَمَ:
«إن السلامةَ أن ترضى بما قُضِيا
ليسْلَمَنَّ بإذن الله من رَضِيا» (أبوالعتاهية)
الموتُ كأسُك الأخيرة، فتزَوَّدْ بما يكفي من حكمةٍ لتَكُونَ في مستوى اللحظة/ العمر. كُنْ حكيماً في تسيير أمورك، لكن قبل أن تُلْقي بدَلْوِك في بئر الحكمة، قبل أن ترتدي قميص الحكمة، اعْرِفْ ما تَكُونُه الحكمةُ:
«وكيف تُريد أن تُدْعى حكيماً
وأنتَ لكل ما تهوى رَكُوب» (أبوالعتاهية)
انتبهْ يا غافل، وأنتَ تركب موجَ الهوى يستحيل أن تقودَك الحكمةُ..
كأنه ابنُ أُمِّك ولم تَلِدْه أُمُّك هذا الذي يسمى أبا العتاهية..
يُضيءُ بقناديل حكمته ليلَك الْمُهْلِك..
يعلّمك الزُّهدَ، ومن ثمة يشدّ على يدك بحرارة حتى لا تَزْهدَ في ما يُبقيه طوْعَ يديك من فسائل تُقَوِّيك على صمودك، حتى حين، في صحراء دنياك الموحشة، فسائل خصيصاً لك يقطعها من نخلة الحكمة الأُمّ لتُرَطِّبَ عروقك وتُطَيِّبَ مُضِيَّك..
تَقَدَّمْ، إليك عقْد حكمته الثمين، طوّقْ به أيَّامك.. حَرْفُه يناديك.. سَلْه النصيحةَ يُلَبِّ، ادْنُ منه تَسْلَمْ من كل صاحبٍ مُوَارِبٍ..
كاتبة مغربية

بقلم : سعاد درير
copy short url   نسخ
02/07/2016
2076