أحسب انني ممن وصفهم أدهم الشرقاوي بأن قلوبهم مثقوبة برصاص الذكريات. ومن ضمن تلك الذكريات العصية على النسيان، تلك التي كانت تجري على قدم وساق قبيل قدوم ضيوف لزيارتنا وأنا بعد طفلة.

في تلك المرحلة لم يكن الضيف يحمل معنى مقتصراً على الإضافة، بمعنى طعام إضافي أو مقاعد وأوان إضافية، أومكان إضافي على طاولة الطعام أوعناية مضافة لاستقبال الضيوف. بل كان الأمر جللا، وكانت العزيمة تحمل كل الدلالات الحرفية المشتقة من مفردة العزم وبعزم على الضيف حتى يرضخ ويتناول طعام الوليمة عن آخره ولو فاق طاقته، عدا أن الضيوف كانت لهم معاملة خاصة لا نحلم بعشر عشرها نحن أهل الدار. وهذه المعاملة الخاصة قد تكون بنية الحفاوة والكرم بغريب، أو لمصالح وعلاقات عامة ستتم بشكل أفضل خلال وليمة، أوخوفاً من لسان الضيف لو دخل البيت ثم خرج فأفشى العيوب.

لكني الأديب المغاربي ياسين عدنان قد فاق حدود الكرم والإحتفاء بضيوفه الذين حلوا عليه في برنامجه «بيت ياسين». فهو لا يحتفي بضيوفه للسمعة، فاسمه كأديب وروائي معروف في المشرق والمغرب معاً كما ان رائعته «هوت ماروك» علامة في الأدب المغربي. ثم أن عدنان لا يقدم البرامج كمذيع محترف ولكن كإنسان وكأديب وكصديق يشتاق ويرحب بضيوفه دون أدنى حاجة لاستخدام أسئلة مستفزة أو فضولية أو تعليقات سخيفة أو ضغوط سمجة على الضيف لإحراجه أو نظرات تكذيب لرواية الضيف.

المؤسف أن من يقومون بهذه الممارسات والتي هي أشبه بشغل الباباراتزي، مصنفين كإعلاميين رغما أن ما يقدمونه يفتقد لأدنى مراتب اللياقة أوالأدب. لكن عدنان يختار ضيوفه بعناية ويعاملهم كأرباب للفنون والآداب؛ لذا، فتحضيراته لاستقبالهم تتم، لا على قدم وساق، بل على عقل وقلب، فالجلسة بها عيش وملح وحميمية وموسيقى وشاي وبسمات ودودة. كما تكاد تشم عطر البخور المنثور في الجلسة التي يبوح فيها الضيف بالكثير من ذكريات رحلة تجربته الأدبية، فيما يستمع ياسين بانصات مبهر وأحيانا ينفجر بضحكة من القلب، فهو يجيد التجاوب مع ضيوفه. يشارك في تلك التحضيرات لائحة مضيئة من المبدعين منهم الأساتذة: مشهور أبو الفتوح، هشام عبد الرّسول، وائل يوسف، محمد عاطف، مروة وهدان، وسام غانم، هيثم صالح، أحمد بكر، تامر يوسف، آية مدحت، ومحمود أشرف. وقد يكون المشاهد قد تعرف مسبقًا من خلال برامج أخرى على ضيوف «بيت ياسين» من الشعراء والأدباء والفنانين، لكن الرجل وبدماثة خلق لا نظير لها، استطاع الكشف عن الوجه المفرط في الإنسانية لكل ضيف، فهو يخرج ما في جعبتهم دون أدنى محاولة لإحراجهم أو لجرحهم أو للتشهير بخطاياهم أو استدرار المعلومات عنوة وكأنه وكيل نيابة يطرح الأسئلة للمشتبه فيهم.

الرجل لا يتبنى تلك الأساليب ولا ينتشي فخراً لو ابكى ضيوفه وأحسب أنه ومن قبله الفنانة القديرة اسعاد يونس يعاملان ضيوفهما بود بالغ ندر ما تجد مثيلا له في سائر برامج «التوك شو» المنتشرة بالفضائيات والتي تسعى للـ«ريتينج» ولتحقيق إعلانات ولو على جثة الضيف، بل وتقدر نجاحاتها بعدد المشاهدة، لا بالمحتوى.

لقد تعرفت عن كثب من خلال البرنامج على عدد لا بأس به من المبدعين العرب، ومنهم مع حفظ الألقاب ابراهيم الكوني، الشاعرة العالمية مرام المصري، صاموئيل شمعون، ناصر عراق، أدونيس، أحمد عبد المعطي حجازي، علوية صبح، واسيني الأعرج، يوسف زيدان وحسن أوريد وسواهم.

وقد يكون المتفرج قد شاهد هؤلاء الكتاب في برامج اخرى، لكنه سيندهش لمطالعة هؤلاء المثقفين بشكل مختلف «ببيت ياسين»، فلقد انسن عدنان برامج «التوك شو». فتراه في حلقة الشاعرة العالمية المرهفة «مرام المصري» يعاملها كبلورة نادرة يخشى عليها من الخدش، انه يمنح الضيف قلبا منصتا ولا يقاطع إلا لضرورة، كأن يجد أن ضيفه قد يفهم على نحو خاطئ.

وقد استوقفني وصف الدكتور حسن علي، أستاذ الاعلام المصري للبرنامج، حين كتب:«أنه برنامج ثقافي ممتع، اتسم بالأناقة والرقي في كل شيء، سواء نعومة حركات الكاميرا، الإضاءة، الديكور، مكونات الشاشة وملابس تتسم بالبساطة والجمال. وحتى المذيع أنيق في مظهره وتلقائيته ولغته وطريقة مداخلاته مع ضيفه التي اتسمت بالرقة والحميمية، الحلقة تجعلك تشعر أنك في مباراة ثقافية رفيعة المستوي بين مذيع سلس الأداء وضيف حاضر القريحة متوقد الذهن. وقد وجدن في البرنامج عِوَضًا عن مسلسلات مغرقة في السبوبة، وتمنيت أن يحمل الإعلام الثقافي لواء المرحلة المقبلة».

أما الكاتبة «حنان درقاوي» فقد وصفت مقدم البرنامج بأنه «اوتي شيئا فوق الموهبة والعمل وهو القبول الناتج من طاقته الإيجابية وطاقة الحب التي تقوده». تحية للقائمين على هذا العمل الذي يؤنسن برامج الفضائيات ولا يلهث خلف اللايكات.

داليا الحديدي
{ كاتبة مصرية