+ A
A -
لقد جاءَ الإسلامُ والناسُ مُتفرِّقَة ومُمزَّقَة؛ يتعادَونَ في القبائِلِ والشُعُوب والألوانِ والأديانِ والأنسابِ واللُغات، فكان كُلُّ اختلافٍ بينهُم يُفرقُهم ويُفتِتَهُم أكثر وأكثَر، إلى أن جاءَ دين الإسلامِ القوِيم داعِيًا إياهُم إلى الوِحدَة والائتلاف الإنسانِي الجامِع، إلى التسامُح والتحابُبِ والتَوادُد والصفح والعَفُو الجَمِيل، إلى الالتزام بالقِيَم الخُلُقيَّة السَامِيَة، ناهِيًا إياهُم عنِ التباغُض والتفرُّق والتعادِي.
إنَّ فكرة التسامُح تعنِي في أبسَط معانِيها القُدرَةُ على تقبُّل الرأي الآخر والصَبرُ الجَميل على أشياء لا يُحبُّها الإنسانُ ولا يستسِيغُها، بل يعُدُّها أحيانًا مُعاكِسَة تمامًا لما يدينُه وما يؤمِن بِهِ من أفكار ومعتقدات وأخلاق، فمبدأ التسامُح والتعايُش يعنِي تجاوُز أيُّ سبيلٍ للانقسام، الذي كان وما زال، يقومُ على أساس الرابطة الدمويَّة، أو الرابطة القبليَّة، أو الرابطة العشيريَّة أو الدينيَّة أو الطائفيَّة وغيرها، مِن سُبُل التفرقة والاختلاف على صعيدَيّ النظريَّة والأخلاق، فالتسامُحُ إذن ضرورة حياتيَّة ورُكنٌ أساسيٌ من أركان السلام وانتصار روحُ الخير البشريَّة في هذه المعمورَة.
يفرِضُ واقِعُ الحياة تنوًعًا وثراءً ثقافيًا ودينيًا كبيرًا، كما أنَّ التبايُن والتنوُّع الإنسانِي ينعكِس بشكلٍ مُباشِر على الأمزِجَة والمذاهِب والمُيُول والمُعتقدات؛ الأمر الذي يؤدِّي إلى اختلافٍ وتمايُزٍ وتغايُرٍ في المنطلقات الفكريَّة والسُلوكيَّة للبشر، ولولا مبدأ التسامُح لما تقبّلنا، بصدرٍ رحِب، كُلّ هذا الثراء والتنوُّع الذي اقتضَتهُ سُنَّةُ الحياة، وكُل تِلك الآراء ووِجهات النظَر والرُؤى المُختلِفة التي تزيدُ العقل الإنساني خُصوبَةً وتلاقُحًا وإنتاجيَّة.
فالتسامُح إذن مُتطَلَّبٌ ضَرورِيٌّ لمواجهَة التزَمُّت والعَداء والتشَدُّد والانغلاق والتعصُّب، والإفراط في الاعتقاد بالتفوُّق على الآخر دينيًا وعِرقيًا وسِياسيًا وثقافِيًا. كما أنَّ التسامُح مع الآخر يُعَدُ كذلِكَ شرطًا من شُروط استمرار الحياة الكريمة للإنسان وتعايُش كافَّة مكنُوناتِها المُتبايِنَة، فالاختِلاف طبيعَة اجتماعيَّة بشريَّة أكَّدتها وتؤكِّدُها ذاكِرَة التجارُب البشريَّة.
قارئي الكريم، إنَّ التعَصُّب يجُرُّ من خلفِه التعصُّب، والتسامُح -مع مَن هُو أهلٌ له- يستجلِب التسامُح، والاعتدال يولِّد الاعتدال، والتاريخ الإسلامِي المُشرِق مَليءٌ بالأحداثِ التي تُؤكِّد ذلكم، فعندما خضعَت الدولة الإسلاميَّة لسُلطة المغول الكافِرَة في أواسِط القرن السابِع الهجري؛ دُمِّرَت كثيرٌ من معالِم الحضارَة والفِكر الإسلامي، ورُغم تلك الانتكاسَة السياسيَّة الهائلة في حياة المسلمين، إلّا أنَّ الفكر الإسلامي استطاعَ أن يُحافِظ على تقدُّمه الثقافِي، فقساوَةُ الغازِي وشراسَة الصَدمَة لم تتسَبَّب في شَللِ مفاصِل الحياة الإسلاميَّة بل العكس، فالانهيار السِياسِي قُوبِلَ بالتقدُّم الفكري والثقافِي، حيثُ زادَت النتاجات العِلميَّة والفكريَّة لعُلماء المسلمين في تلك الفترة، وكانت سببًا رئيسيًا في تحوُّل أجهزَة السُلطَة المغوليَّة إلى العقيدَة الإسلاميَّة وكذلك الإعلان على أنَّ الإسلام هو دين مملكتهم الرسمِي، هكذا حَقَّق الإسلام نصرَهُ الحضارِي بعدَ خسارتِهِ العسكريَّة الفادِحَة.
إنَّ المنظُومَة السُلوكيَّة والأخلاقيَّة التي جاءَ بها الدين الإسلامِي الحَنِيف، المبنيَّة على الإيثار والإحسان والرِفق والعَفُو والأمانَة والقَول الحَسَن والأُلفَة؛ اقتضَت بالنتيجة الالتزام بمبدأ التسامُح، فالعلاقات الإنسانيَّة والاجتماعيَّة في أصلِها علاقات قائِمَة على المودَّة والمحبَّة والأخوَّة، مهما تباينَت المواقِف والأفكار، فهذا التبايُن والاختلاف يؤكَّد على ضرورة الالتِزام التامّ بهذِهِ المبادِئ والقِيَم.
وفي الختام، يُمكن القَول إننا اليوم في أشَدِّ الحاجَةٍ إلى تفعيل مبدأ التسامُح وأخذِهِ من طورِه النظري البَحت إلى طورِ التشغِيل التطبيقي، فمجتمعات القرن الواحد والعشرين بحاجَة إلى هذا التسامُح العظيم الذي فيه وحدَه يتم القبولُ بالآخر المُختلِف والتعايُش معهُ بإيجابيَّة ومُرونَةٍ حقيقيَّة، فالتقارُب بين الأُمَم والحضارات والثقافات أصبح واقِعًا كبيرًا بفِعل ثورة الاتصالات التي جعلت العالم (غُرفةً واحدة) يستوطِنُها الجميع، مُزيلةً كافَّة الحواجِز الزمكانيَّة بينَ هؤلاء الجماهيرِ الغفيرةِ المُتباينة، الأمر الذي يدفعُ بهؤلاء السُكّان في هذه الرقعة الصغيرة إلى إيجاد مساحاتٍ مشتركة مع غيرهم من المستوطنين؛ تحقيقًا لمصالِحِهِم الفرديَّة والمُشتركَة والمُضِيِّ بِهِم بسَلامٍ وأمَان إلى الغَدِ المُشرِق الذي يضُمُّ الجَميع.
بقلم: خولة مرتضوي
copy short url   نسخ
30/05/2020
2991