إذا كان الاقتصاد هو المحرك الرئيس لجميع مناحي الحياة فإن سلاسل التوريد هي المحرك الرئيس للاقتصاد، إذا تعافت تعافى، وإذا تضررت تضرر، وأخطر ما تواجهه من أضرار هي التحديات أو التوترات الجيوسياسية، التي تعني
الحروب والنزاعات التي تنشب بين الدول لأسباب جغرافية أو سياسية، سواء كانت متجاورة أو غير متجاورة، وتزيدها التحالفات والاستقطابات ضراوة، وضررها يقع مباشرة على سلاسل التوريد التي تزود الشعوب بما تحتاج لشؤون حياتها كلها، ويُقصد بها مجموعة المراحل والعمليات الصناعية التي تقوم بها المؤسسات باستخدام التكنولوجيا، بدءا من مرحلة الحصول على المواد الخام الأولية، ثم تصنيعها، ونقلها بالسفن عبر البحار، والطائرات عبر الأجواء، والشاحنات والقطارات عبر الحدود والممرات، وصولا إلى المرحلة النهائية وهي التوزيع على المستهلك الأخير، وجملة القول يطلق اسم سلسلة التوريد على مسار الإنتاج بأكمله من التصنيع حتى الاستهلاك.
وفي ظل التوترات أو المخاطر الجيوسياسية تُصاب سلاسل التوريد بشلل شبه تام، فيتعطل نمو الاقتصاد، ويطل شبح أزمات الغذاء، وشح الدواء، واستفحال الغلاء، والفقر والمرض والبطالة، والركود والتضخم وغيرها من الأزمات التي حلَّت بالعالم، ويؤكد (الأونكتاد) أن الأضرار الناجمة عن المخاطر الجيوسياسية تفوق الخسائر التي كبدتها جائحة كورونا لاقتصادات العالم، وتخطت ثلاث تريليونات دولار.
ولا يختلف اثنان على أن أبرز التحديات الجيوسياسية في الوقت الراهن تتمثل في الحرب الروسية الأوكرانية، والعدوان الإسرائيلي على غزة ولبنان، ودخول الحوثيين في اليمن على الخط، وتصعيد النزاع بين إسرائيل وإيران، والحرب الاقتصادية بين أميركا والصين، والتوتر بين الكوريتين، والاقتتال الداخلي في بعض البلدان كحالة السودان على سبيل المثال، كل هذه التوترات ألحقت أضرارا جسيمة بسلاسل التوريد.
وكما يقال بالمثال يتضح المقال، فالمعروف أن روسيا وأوكرانيا أكبر مصدرين للغذاء في العالم، ينتجان وحدهما 30 % من صادرات القمح العالمية و19 % من إمدادات الذرة و80 % من صادرات زيت دوار الشمس، وروسيا وحدها تنتج 40 % من المواد الخام الأولية اللازمة لصناعة السيارات والمعدات الأوروبية، والمصدر الأول للنفط والغاز لدول مجموعة السبع ألمانيا وفرنسا وإيطاليا وبريطانيا وكندا واليابان والمملكة المتحدة والولايات المتحدة الأميركية.
وفور اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية تأثرت سلاسل التوريد العالمية بسبب إنزال العقوبات على روسيا من قِبل دول الاتحاد الأوروبي وأميركا، وحرمانها من نظام سويفت المالي العالمي، وتجميد أرصدتها، وفي المقابل ردت روسيا بوقف تصدير النفط والغاز والمواد الخام الأولية اللازمة للصناعة عن دول الاتحاد الأوروبي، ونالت اليابان نصيبها من الضرر بتوقف صادرات الحديد إليها، وفي أوكرانيا تحولت مساحات الزراعة الواسعة إلى ساحات للحرب، حلت فيها المدافع والدبابات محل الآلات الزراعية، والجنود محل المزارعين، فتأثر الإنتاج الزراعي سلبا.
نتيجة لذلك أغلقت مصانع كثيرة أبوابها، وقلصت أخرى خطوط إنتاجها في روسيا وأوروبا، وسرحت أكثر من 50 % من عمالها، وقل نشاط الشحن والنقل والتفريغ، وحدث الارتباك في النقل البحري، وتم إلغاء بعض الخطوط الملاحية، فتوقفت السفن المحملة بالغذاء والبضائع الأخرى المتجهة إلى دول العالم عن مواصلة رحلاتها، وتقطعت بها السبل في عرض البحر الأسود وبحر آزوف اللذين لا يزالان خارج الخدمة حتى الآن، وترتب على ذلك ارتفاع أقساط تأمين البضاعة المنقولة بحرا، وامتدت حالة الارتباك إلى النقل الجوي بإغلاق دول الاتحاد الأوروبي وكندا وأميركا مجالاتها الجوية أمام الطيران الروسي، ولم يسلم النقل البري هو الآخر من الأضرار، لا سيما نقل البضائع من الصين إلى أوروبا بالسكك الحديدية، وكانت الصين قد اتخذته بديلا بعدما قفزت أسعار الشحن البحري بسبب تكدس الموانئ خلال جائحة كورونا.
هذا الضرر البالغ لسلاسل التوريد تسبب في ارتفاع أسعار الغذاء على مستوى العالم بنسبة 50 %، ومعاناة الدول النامية المستوردة للآلات والمعدات الرأسمالية، وأكدت المفوضية الأوروبية بناء على دراسة أجرتها أن الشركات الصناعية في الاتحاد الأوروبي التي واجهت نقصا في المواد والمعدات اللازمة للتصنيع رفعت أسعارها بنسب تقترب من 50 %، وفرضت قيودا على إنتاجها أضر بالنمو العالمي.
نأتي إلى تأثير التحديات الجيوسياسية على سلاسل التوريد في منطقة الشرق الأوسط، بسبب الانتهكات الإسرائيلية وممارستها الإبادة الجماعية لسكان غزة منذ أكثر من عام، وتوسيع عدوانها إلى لبنان، ودخول الحوثيين في اليمن على خط الحرب بمهاجمة أنواع السفن والناقلات التي تمر عبر البحر الأحمر فعطلت الملاحة فيه، وهذا أشاع جوا من عدم اليقين لدى المستثمرين، فأخذوا يبحثون عن مناطق أكثر أمانا لاستثماراتهم، بعد أن أغلقوا مصانعهم وشركاتهم في دول المنطقة.
تكشف الإحصائيات المتعلقة بالأهمية الاستراتيجية للبحر الأحمر حجم الضرر الذي لحق بسلاسل التوريد، نتيجة الهجمات على السفن والناقلات، فالبحر الأحمر يمر منه 30 % من إجمالي سفن الحاويات العالمية، وتربطه بالبحر الأبيض المتوسط قناة السويس التي يمر منها 13 % من حجم التجارة العالمية، ويربطه بالمحيط الهندي وبحر العرب مضيق باب المندب الذي يمر منه يوميا حوالي 6 ملايين برميل نفط من دول الخليج إلى أوروبا وأميركا، و8 % من الغاز الطبيعي المسال، وكل هذه النسب تقلصت إلى النصف تقريبا منذ بدء العدوان.
ويمثل البحر الأحمر أقصر حلقة وصل ملاحية بين آسيا وأوروبا، وأية مسارات غيره كطريق رأس الرجاء الصالح الذي بدأت شركات نقل تتحول إليه تعني إطالة مدة الرحلة، فيتأخر وصول الإمدادات وترتفع الأسعار، وتزيد تكلفة الإنتاج الصناعي، والنقل البحري، وأقساط التأمين، وهو ما حدث بالفعل، وتفاقمت الأضرار بتعطيل النقل الجوي بعد التصعيد إسرائيل وإيران هجوما بالطائرات وقصفا بالصواريخ، حيث أوقفت شركات الطيران رحلاتها للمنطقة فتضررت صناعة السياحة.
كما تأثر جراء هذا التوتر أيضا مضيق هرمز الذي يمر منه نحو 40 % من تجارة النفط وشحنات الغاز من منطقة الخليج لمساعدة أوروبا على تعويض جزء من النقص الذي نجم عن توقف إمداد الغاز الروسي لها.
وبسبب التوترات الجيوسياسية بين أميركا والصين بسبب تايوان، تضررت سلاسل التوريد حيث فرضت أميركا عقوبات مشددة على شركات خاصة وحكومية وشخصيات صينية، وأغلقت لديها الشركات الصينية التي تعمل في مجال الرقائق الاليكترونية، فردت الصين بإجراءات انتقامية مماثلة، وهكذا حيثما تتواجد التوترات الجيوسياسة تتضرر سلاسل التوريد، وهذا غيض من فيض، فلا تزال سلاسل التوريد تتضرر جراء ما تفرضه الدول على بعضها من حصار ومقاطعات، وما تقوم به العصابات من قرصنة السفن في أعالي البحار والمحيطات.
وهنا تطرح بعض الأسئلة نفسها: هل سيبقى تعافي سلاسل التوريد والاقتصاد العالمي رهنا للأطراف المتنازعة التي تجلب الضرر لغيرها؟ وهل سيظل نمو اقتصاد المنطقة العربية رهنا للعربدة الإسرائيلية التي يبدو أنها مستدامة؟ ما الحل وقد عجزت الأمم المتحدة ومحكمة العدل ومنظمات المجتمع المدني ومنظمات حقوق الإنسان عن وقف هذه الحروب والتوترات؟.
في الواقع هناك الكثير من الحلول التي على دول السلم اللجوء إليها، أولها بذل الجهود لفرض السلام ونزع فتيل التوترات، وهذا ليس بالأمر الهيَّن الليِّن وإن كان ممكنا في المنظور البعيد، أما الحلول الفورية فهي فرص جادة أمام الدول المستوردة، من باب في كل محنة منحة، والحاجة أم الاختراع لتبدأ الدول المتضررة على الفور في توفير الفرص للمستثمرين للاستثمار في إنتاج ما تستورده بهدف تحقيق الاكتفاء الذاتي، التوسع في تشييد المستودعات الذكية لتخزين كميات أوفر من السلع الاستراتيجية لفترات أطول، وتنويع الموردين لتوفير البدائل، والانتقال إلى عالم متعدد الأقطاب، وتوقيع اتفاقيات مع دول الجوار أو القرب الجغرافي للتبادل التجاري بالعملات المحلية.
وعلى الأطراف التي تدير سلاسل التوريد إعادة التفكير في نظم إدارتها وأتمتتها، والتوسع في استخدام الذكاء الاصطناعي، والمرونة في عالم متقلب، تفعيل أدوات المراقبة، ودراسة المواقف السياسية العلنية للتنبؤ بوقوع أية توترات جيوسياسية، وتنويع وسائل النقل، وإلا سيبقى الحال على ما هو عليه بل والمزيد من الأزمات.
بقلم: د. بثينة حسن الأنصاري خبيرة التخطيط الاستراتيجي والتنمية البشرية وحوكمة المؤسسات