+ A
A -
كثيرا ما يُغرينا فضاء الشعر بإلصاق شيء من المعاناة ونحنُ نُفَصِّل أبطال الورَق الذين يتم انتشالهم من واقع الحياة، تَأسرنا مواقف الألم والأمل، وتجتذبنا على نطاق واسع أزمنة السقوط تلك التي تُلهب حطب الشخصيات المفصَّلة على مقاس قمصان البطولة..

غير أنه ليس من السهولة يا صديق أيامي الحلوة والمرة أن نغطي شمس الحزن بغربال، هو ذاك الغربال الذي يَكشف أكثر مما يحجب، وبالتالي فإنه من غير المثالي أن نُرهق عيون القراء بالمزيد من البؤس والشقاء، وما ذلك إلا خوفَ أن يَرحل القارئ كما رحلت أزمنة الضوء..

في غياب مساحة المرح التي قد يستبعدها في أغلب الأحيان النَّزْفُ الشعري ذو النفحة الشجية بجرعات الحزن المضمرة، قَلَّمَا نَعِدُ الروح بأن تعثر على شيء من الطرائف التي تشفع لكي تُضَمِّدَ الجرح لا لكي تَنكأه..

لكنه الشاعر الفنان ذاك الذكي الذي يَعرف حق المعرفة مِن أين تؤُكل الكتف وكيف يَتِمّ تطويع اللسان، لماذا؟ لنَحمل الآخَر المتلقي على أجنحة اللذة الفنية تلك التي تضربها له مدينةُ الشِّعر خارج مدار المألوف..

وها هي ذي عربة الصُّدفة تَضرب لنا موعدا في حقول الكوميك الصادم صدمة منعشة ولذيذة، كيف لا والشاعر من هنا يأخذنا على هودج مغامرته الشعرية هذه التي تَقصّ الكلام بمقصّ الحكي العجائبي لتُمَدِّدَ سردا قصةَ السندباد الشعري وقد طرق بابَ رحلته الأخيرة طارق..

صَدِّقْ يا صديقي أن ما مِن طارق سِوَى الفأر الشقي الذي يَحضر بكل ثقله العائلي وموروثه الذي يسقط من حقيبة زمن القوارض ليرسم على الشفاه البسمة التي سبق أن صَفَّقَتْ لها العينان..

إنها البطولة المطلقة للفأر بن الفأرة سليل فصيلة الجرذان ذاك الذي رتب له قدره موعدا مع شاعر جرّ عليه الظرف العصيب غضبَ وسُخْطَ قبيلة الفئران..

«نلتَ عطفي وحناني ثم فارقتَ مكاني

يا ترى هل تهتَ عني أم نهاك الأبوان

كنتَ لي خير أنيس نشِط في كل آن

ولَكَمْ تبدو لطيفاً في تناء وتدان

ليس ما تفسده لي من إدام في أواني

ليس لي زرع وزيت وطعام في جفان

ليس من شيء عليه يتعادى الأخوان

فأواري لك هِرّاً مُقْلَتَاه جَمرتان

مُنْزَوٍ عنك بعيداً ويداه تبطشان

ليس ما يوجب هذا منك فارجع في أمان

بَسَمَ الفأر بخبث بسمةً فيها ازدراني

قال لي والقول منه مثل سهم قد رماني

كل ما قلتَه حقٌّ وغنيّ عن بيان

ما الذي أفعل في أَرْكانِ بيت رمضاني

أتغذى بقريضٍ لفلان وفلان

ومقامات الحريري تحت ديوان «ابن هاني»

ورسوم لرفاق عُلِّقَتْ في الجدران

والِدِي أمس وأمي في رجوعي سألاني

ياتـُرى إذ غبتَ عنا كنتَ في أي مكان؟

قلتُ قد كنتُ ببيت من أعاجيب الزمان

وإذا ما شئتما أن تَرَيَاه فاتبعاني

رأياه ثم قالا وهما لي ناصحان

إن ذا بيت أديب مُولع بالشعر عانِ

لا تَلِجْهُ بعد هذا فهو يعدي بالتداني

قلتُ والقلب من الغيـظ يعاني ما يعاني

أمن أجل المال أبقى مفرداً من دون ثاني

أوَ ما يكفي بأني ذو معان وبيان

وضميرٌ لي شريف عرفته الثقلان

وكذا حتى من الفيران اُرْمَى بهوانِ

قال: يا خيرَ أديبٍ دعكَ مِن ذا الهذيانِ

اكسبِ المالَ لتَحظى من رفاقي بالتداني

ووداعاً إن أمي وأبي يَنتظراني!..» (محمد بن ابراهيم).

إنه الشاعر الخبير باللعب على حَبْلَيْ الإضاءة والتعتيم، هذا الكبير محمد بن ابراهيم، هو الذي أَثَّثَ فضاء الحكي بمؤثثات كسرَتْ أفق التوقع والانتظار، إذ نسج حوارا بليغا بين العاقل وغير العاقل اللذين فرق بينهما الوسط والظروف لتجمع بينهما اللغة..

لغة أقل ما يُقال عنها أنها لغة سلسة المفردات، متحررة من قيد الغموض، هي لغة جعلت من النص الشعري قطعة فنية مموْسَقة كما لا يفعل إلا المحترفون والمقتدرون أولئك الذين يزفون المباني إلى دائرة المعاني..

بإيقاعها المنساب انسيابَ ماء تَحلم به الدالية العطشى ها هو نصُّ شاعر الحمراء محمد بن ابراهيم يُثمر عِنَباً حُلوا حلاوةَ سُكَّر يُداوي لا يسبب الداء، سُكَّر هو يعلن (مبلغ الشفاء) الدرجة التي بلغها اختمار التجربة الشعرية للشاعر المغربي المبدِع على طريقة الكبار..

هو ذا الشاعر التي لم يمهله قطار العمر أكثر من سنواته الخمسين ليَكتب ويتفنن كما لا يَحلم بذلك مَن لم يَغرفوا غَرفةً واحدة تُذْكَر من خابية الكوميديا السوداء تلك التي تقدم نموذجا من الشجن في صورة مضغوطة داخل قالب سخيّ بدغدغة داخلية تبعث على الفكاهة أكثر مما توحي بغُربة بطل الحكي المتخَيَّل عن زمن يستدرجه إلى محيط التلاشي والاندثار..

حوار متخيَّل خَلاَّق للحدث يَبنيه الشاعر على جسر اللامنطق وهو يستهله بأن يبكي على أطلال ذكريات مَرَّتْ من هنالك حيث كان الفأر يتسلل إلى مَعبده ليرتب فوضى المكان الهارب من مسافة الانتظار..

إنه البكاء على أطلال حبل التذكر الذي يستكثر على بطل السرد الشعري المتخيَّل أن تتعاطف معه القوارض بعد أن أخفق في استجداء شيء من التضامن الذي ما أبعده عن بَنِي جنسه..

عالَم حالِم بِـ«النكتة» يَدعوك إليه الشاعر محمد بن ابراهيم وهو يَسخر سخرية مسيلة للدموع المرِحَة من شبح الفقر الذي ابتلع كل ما يَدعو إلى الحياة في بيت البطل، على أنه شبح الفقر ذاك الذي لا ينقصه الوعي الثقافي ليأذن ببقاء كل ما يشجع على الحياة الثانية..

إنها الحياة الثانية التي لا تُعفي من حصار الثقافة، فإن غاب ما يُسكت الأمعاء لن يَغيب بالتأكيد ما يُهَيِّجُ حطبَ المعرفة ويُغَذِّي شعلةَ الذكاء..

شَتَّانَ بين امتلاء سلال الرغبة والحرمان، وهيهاتَ لصياد الحظ أن ينام على غير مفارش الشوك في ظل الشوق المبرح إلى عطر تبرَّأَ منه الورد..



بقلم : د. سعاد درير
كاتبة مغربية
copy short url   نسخ
07/03/2020
1989