+ A
A -
أول ما يُلفت النظر في دلالات التصويت في الانتخابات التونسية الأخيرة، هو دقة وحيوية توجيه رأي الناخب التونسي، ولماذا قرر أن تتشكل هذه المنظومة في حكم الدولة بعد مرحلة انتقالية صعبة، عاشت تونس فيها، استهدافا وضغطا من الداخل والخارج لصالح مشروع فكرة الثورة المضادة، العربي أو الغربي، ثم التجاذب الشرس الذي بُسطت خلاله المنظومة الإعلامية الممولة قوة واسعة، ضخت في اتجاه سقوط توازنات الثورة، وتهيئتها لفوضى تعيد أجواء الحسم السياسي المدعوم بالقبضة الأمنية.
ومع ذلك جاء التصويت خارج إطار هذه القوة الناعمة، رغم أن هذا المشهد لم يتكرر في دول أخرى، خُدعت فيها الجماهير قبل أن تستيقظ على العهد المتوحش، وحتى تفاصيل توجهات هذا التصويت مثيرة حقاً، فأُقصيَ نداء تونس والخطاب الثوري للرئيس السابق المنصف المرزوقي، وأُبعد الشيخ عبد الفتاح مورو رغم أنه يمثل البعد الإسلامي في الثورة، وأطيح بالمرشح ذي الإمكانيات المادية الضخمة نبيل القروي، رغم حركة التعاطف التي هُيئت له في السجن بتهمة الفساد.
في ذات الوقت مدد الناخب التونسي مساحة إضافية لحركة النهضة برلمانياً، وإن فقدت عدداً من المقاعد، قناعةً منه بالدور الذي تلعبه الحركة في التوازن الوطني الاجتماعي، لكن دون تسليمها الرئاسة، أو الحكومة المطلقة.
وقد تُقرأ هذه النتائج بأنها حصيلة كوتة أصوات متعددة الاتجاه، وهذا ممكن ولا يمنع من أن حصيلة هذه (الكوتا) متحدة أعطت هذا التوازن، لكن قفزة قيس سعيد مدعوماً بهذا القرار الشعبي، الحاسم والحاشد، تعطي دلالات مهمة لدقة رأي الناخب التونسي.
ولا يُلتفت لفكرة المؤامرة في الزج بسعيد، فحراك الشعوب وإن تآمرت عليه أي من قوى الثورة المضادة أو المصالح الدولية، فهو رهن بأخطاء ممثلي هذه الشعوب، وظروف الترصد لهم، وليس باعتبار كل حدث وتغيير تنفذه إرادة الشعب، مجرد لعبة خلفية، فهذه العقيدة الجبرية التي تنظر للعالم كهيكل تُمسك خيوطه قوى بشرية، فوق قدرة القدر، نوع من فوضى التفكير، التي تعيش أزمة قلق وحصيلة تجارب مرة، جعلتها تكفر بأي إرادة بشرية يسخرها الله للناس في سنن الصراع الكوني.
لقد جاء اختيار سعيد، بعد ما بدا أنه نجاحٌ لحركة الظل للثورات المضادة، والتي تعتمد على التنميط الغربي للعرب، وامبراطورية الإعلام الحديث، ففجأة بدأت تُدفع قوى ثقافية لتحويل حالة الثورة السياسية من منظومة العدالة الاجتماعية، حيث السعي لتكريس الحرية السياسية، وتداول السلطة بناءً على قرار الشعب وإرادته، وضمان الوصول إلى تكافؤ فرص وظيفي، وإنقاذ الوضع الاقتصادي، مع تثبيت حرية الرأي والكلمة.
فحولت المعركة إلى صراع مع نصوص القرآن الكريم، التي لا يمثل إيمان الشعب بها، أي عائق لتحقيق العدالة الدستورية الجامعة، واستُدعيت قضية فرض ثقافة اليسار الجندري، أي إكراه الرأي العام والطفولة والعائلة على القبول بالترويج للمثلية ولمآلات الثقافة الغربية في شقها الأخلاقي السلوكي، وفكرها الذي يقود إلى تسليع الحياة الإنسانية (وتشييئ) البشر، فلا شراكة حُب ومنزل بين الجنسين وإنما حالة تخلّق تعزل النساء عن الرجال وفطرتهم، عبر فلسفة غربية حديثة لم تحرر معرفيا.
وكان بالإمكان أن تتناول المؤسسات المعنية، حقوق هذه الفئة وإنجاز منظومة تفاهم وطني، تقوم على دراسة علمية ومعالجة حقوقية للأشخاص، دون الزج بها كثقافة قهر للأسرة العربية في تونس وغيرها، هذا الضخ في هذا الملف وملفات النصوص الدينية، حوّل ذلك الجدل إلى مشهد صاخب، يظن المراقب أن له تلك المكانة من أولويات الشعب.
فيما كان هذا الشعب يعطي دلالة تدين إيماني هادئ، وقناعة وطنية وعلمانية مدنية معتدلة تسعى لقيام دولة حقوق وواجبات، لا دولة تيارات صراع أو منظومة أفكار، لا علاقة لها بالإرث الفكري لتونس لا من حيث الأصول العربية الإسلامية ولا من حيث المفهوم العلماني المدني، الذي يشتغل لحقوق الناس وليس لنزع عقائدهم، وهو مؤشر للعمق الراشد لهذه الروح التونسية.
وللحديث بقية.
بقلم: مهنا الحبيل
copy short url   نسخ
24/11/2019
1965