+ A
A -

«إلى مَن لم أضمّهم قبل أن يضمّهم الثرى.. قليل عليهم أن أعاقب نفسي بالبكاء إلى أن نلتقي».
أشياؤها تُناديني
الرَّجُل!
الرَّجُل لا يبكي. وهل من رَجُل يبكي؟!
أُعَزِّي نفسي بهذا الكلام منذ رحيل غاليتي نجوى.
نجوى! غاليتي الحبيبة، دون كل النساء اخْتَرْتُها وقد جَمَعَتْ هي من البساطة والحُسْن ما يعزّ على امرأة سواها أن تُضاهيه.
في حياتي لم أَبْكِ بِقَدْر ما أبكي الآن وقد خَلَّفَتْ نجوى وراءها كُلَّ هذا الفراغ. غُرْفَتُها حَرَّمْتُ على نفسي دخولَها مُذْ رَحَلَتْ، يَسْأَلُنِي عنها السريرُ والوسادةُ والمرآةُ وأطباقُ الطاولة وطَقْمُ الشَّايِ وزَرْعُ الشُّرْفَةِ، وحيثما أَرْمِ عينيّ أَجِدْ أشياءَها تُناديني.
مُعْتَلّ القلب منكسرا أمدُّ يدي إلى كل مكان أتصور كَفَّها تمتدُّ فيه إليّ مصافِحة، مطبطِبة، مستنجدة من التراب الذي تَلَقَّفَها مَزْهُوّا بانتصاره في غمرة وهني وشجني.
من أين أبدا البكاءَ على نجوى، وقد اختزلتْ نجوى كل النساء؟
أقف الآن كَجِدارٍ مَنْسي يُعْوِزُه الدِّفْءُ. بين غمضة عين وأخرى تتسلَّلُ إليَّ ضحكاتُها وهي تَفِرُّ مني هاربة في حدائق الحُبّ حيث كنا نلهو ونركض كمجانين لم يحسبوا حسابَ الخطوة الأخيرة التي أعادتهم إلى الصفر.
خلسة تتسلل إليّ أنفاسُها المتقطعة وهي تقاوم الغرقَ في شاطئ العمر حيث افترشنا أحلامَ الظهيرة وانتشينا بتجديد دماء طفولتنا الهاربة، الشاطئ نفسه الذي اختطفها مني بعد أن أَغْرَتْها موجة متعطشة للحياة بالرحيل، وطفقتْ تجرّها كورقة تتلاعب بها الريحُ.
اليوم أَجِدُني وحدي أغتسل بدموعي التي تنساب قصائدَ تهزُّ الروحَ وتشقُّ قلبَ الحجر. وحدي أعيش مع ذكرى نجوى التي علَّمَتْني معنى اليُتْم، كما علمتني، قبل، كيف أكون رجلا يَنْشَدّ إلى حضن أُمِّه.
بعد نجوى ما عادت ثمة امرأة تملأ عينيّ، وما عادت عيناي تريان أكثر من طيف خيال نجوى. بعد نجوى ها هي الحياة تقفُ على قدم واحدة، وأقف أنا مُعَلَّقا على عَمود ذكراها الغالية فاقدا للهوية، فاقدا لغريزة حُبِّ البقاء، ولا أَحَبّ إلى نفسي من أن ألتحق بنجوى اليوم قبل الغد... حينها فقط ينتهي مَوَّال البكاء، ويسقط سوطُ الألم، وتتعانق روحانا كفراشتين حالمتين إلى الأبد.
أُمُومَة
بعينين منخطفتين أَطَلَّ عليها من شرفته الحَانِية مُتَوَجِّسًا خَشْيَةَ أن يُفْسِدَ عليها عمليةَ إرضاع صَغِيرَيْهَا. بَدَتْ مُنْكَمِشَةً في ركن مُنْزَوٍ قُبَالَةَ شُرْفَةِ الطَّابق الأول. فَغَرَ فَاهُ مندهشا من الدفء الذي غَلَّفَتْ به الأُمُّ المشهدَ لحظة أَسْدَلَتْ عينيها العسليتين وكلها حرص على ضَمّ الصغيرين على الرصيف بقوة هائلة.
طَراوة كتلة اللحم التي تَشَكَّلَ منها الصغيران لا توازيها إلا طراوة وجه الأُمّ الصغيرة البيضاء الحريصة إلى أبعد حد على الاستسلام لغريزة الأمومة وكأنها تمارس الإحساس ذاك لأول مرة.
شعور طافح بالحنين إلى صدر أُمِّه تسلل إليه وما بَارَحَه، وإن شَابَه شعور آخر غريب للغاية اخْتَلَجَتْه تنهيدة عميقة اختزلتْ معنى الفُقْدان لما تذكر فجأة حضنَ زوجته الذي ضَلَّ الطريقَ إليه عقب ولادة عسيرة انتهتْ بموتها وموت الجنينين اللذين حملتهما وهنا. وطأة الذكرى لفحتْ صدرَه العريض وأَرْهَقَتْ عينيه. فما كان منه إلا أن استنشق نفسا عميقا من السيجارة الذائبة بين أصبعيه.
تأملَ من جديد مشهدَ الرضيعين في حضن أُمِّهما فانتابه شعور بالغيرة من دفء الأُمِّ التي ظَلَّ يفتقدها دائما منذ أخذها منه بالقوة زلزال مُدمِّر ضرب المدينةَ قبل أن يطفئ هو شمعته العاشرة.
أخذ نَفَساً أطول من السيجارة التي لم يُوازِ احتراقَها إلا احتراقُ قلبه الذي عبثا حاول أن يَمْتَصَّ عرق الذكريات.
تسلَّلتْ حرارةُ الذكرى إلى يده لما أحس بما تبقى من أُصْبُع السيجارة المحموم يكاد يحرق أصابعَه. بخفة أطفأ عَقِبَ السيجارة في حافة حوض الحبق الذي توسَّط جدارَ الشرفة الممتلئ، وألقى بالعَقِبِ أرضا.
في حركة ثقيلة تحسست الأُمُّ صغيريها على وقع العقب الملقى غير بعيد عنها مضمرة رغبةً جامحة في مقاومة العياء الذي استقرَّ بها تحت الشرفة تلك، وعيناها على الرجل الذي ارتشف بإحساس مُرْهَف قهوتَه الْمُرَّةَ في ضوءِ مشهدِ الأُمِّ المتهالكة وكل همِّها احتواء صغيريها احتواءَ من يتحسس خطرا محدقا لا طاقة له عليه.
من شرفته الحانية بادلها إحساسَ الأمومة بسخاء. ومن موقعها هي أسفل الشرفة رمَقَتْه بنظرات تستجدي العطفَ، وكأنها تلتمس العذر بعد أن ربضتْ أسفل شرفته دون استئذان.
أطالت إليه النظر بعينين متوسلتين وهي تضمُّ إليها صغيريها بقوةِ من يقاوم الوهنَ إلى آخر نَفَس.
ساورها بعض الارتياح لما غاب الرجل فجأة عن الشرفة. وما أن كادت تسدل مجددا عينيها العسليتين حتى انتفضت لرؤيته قادما في اتجاهها وفي يده صحن صغير مملوء عن آخره بالحليب، وَضَعَه قريبا من فمها وشرع يدلك بحنان على رأسها، فما كان منها إلا أن اطمأنَّتْ إليه، وأطلقت العنان للسانها تلعق السائل الأبيض الدافئ إلى أن مسحت الصحنَ وعيناها للرجل شاكرتان ملء المواء.
مكافأة
_ «(...) إنسانة غير طبيعية أنتِ!»
ما أن تكسرتْ كلماتُه الأخيرة على سطح أذنيها حتى استسلمتْ لوابلٍ من الدموع عَلَّهُ يغسل تضحياتها الجسيمة. أيعقل أن تتحول التضحية إلى خطيئة في هذا الزمن المقلوب؟!
ظلَّتْ كلماتُه تلك تُسَمِّمُ أذنيها هي التي طفقتْ تدلك سمعَه بأطيب الكلمات، وما خدشتْ سَمْعَه يوما بكلمة خشنة طوال سنوات الجمر، رغم تقصيره هو.
دون أن تترك له متسعا للاعتذار أو للمزيد من التجريح بلا سبب منطقي يُذْكَر، انسحبتْ كالضوء الشارد في صمت، ولاذتْ بالصمت رغم اختلاجه بصخب الدموع.
كانت خُطاها تنأى بها بعيدا وهي تقاوم ما كان يقذفها به من اعتذارات دافئة. وهل ينفع اعتذار بعد أن قال هو كل شيء؟! وهل ينفع صفح بعد أن قتل الروحَ البريئة؟!
لم تأبه بنداءاته ولا باستعطافه وهي تشدُّ الخُطى إلى كبريائها الجريحة على طريق الندم. كانت تحرق المسافاتِ الممتدة أمامها وهي تحلبُ الذكرياتِ المتراميةَ على مَرِّ العين...
ما تصوَّرَتْ يوما أنه سيحرق القشّة التي تعلق بها ذات غرق، أو أنه سيجعل من الورقة الوحيدة الرابحة ورقةً خاسرة لحاجة في نفسه.
وهي تُلقي بجُثَّتِها في دائرة التيه، كانت تُسِرُّ إلى نفسها ملء السديم بـ: «اِتَّقِ شَرَّ مَنْ أَحْسَنْتَ إليه».
لِحُرْقَةٍ في نفسها
الاعتذار الذي يُدمي عينيه: هذا ما كان ينقصها.
_ «بحق الله عليه، وهل يكفي الاعتذار أو ينفع بعد الخراب الجاثم؟!».
ذاك ما كانت تنبس به دواخلها على وقع ارتجاج الذاكرة، وإن كانت على اقتناع تام بأن اعتذاره لن يُقَدِّمَ عندها ولن يُؤخِّر شيئا بعد أن نفضته عن يديها.
في عز مواسم الحُرْقَة، طفقت تتأمل رسائلَ أمس قديم. الأصابع ترتعد وتحتضر في الثانية مرارا كلما لامستْ حروفَه المتناثرة على أوراق سكنَتْها وما سَكَنَتْه. مع كل ورقة تسقط من بين أصابعها، تسقط دمعة حَرَّى تعتصرها ملء السعير الرابض بين جنباتها بعد أن سقطَتْ هي من حساباته. من حساباته سقطتْ هي مهما تمادى هو في مَدّ منديل الحنين. عصية الدمع باتت بعد أن رحلت الدموعُ هي الأخرى، فقلَّما تجود عليها المآقي بدمعة.
_ «يا لَقَسْوَته يااااااااااااااااه!».
انتفضتْ كالطير الجريح تنتحب لاعنة الحظّ العَاثِر الذي ألقى بها في طريقه ذات مساء عاصف. تَلَقَّتْ عنه ضربةَ العاصفة، فكان أن عصف بها عن إصرار.
_ «يا لقسوته يااااااااااااااه!».
انتفضتْ مرارا وانتحبتْ مع كل حَرْف حَرْف اقْتَرَفَتْه أصابعُه على امتداد صفحات بيضاء إلا منها. مَلَكَتْه وما مَلَكَتْه. مع كل حرف حرف انتفضت مرارا وانتحبتْ. اِنتفضتْ مع كل حَرْف الْتَقَطَتْه عيناها من سيرة الخراب الموزعة على أوراق بيضاء من كل ما احتوته.
_ «يا لقسوته يااااااااااااه!».
أكان عليها أن تتدرَّبَ على تلقِّي المزيد من الطعنات من شمعةٍ خَالَتْها قبسَ نورٍ، فكان أن أَتَتْ نارُها على الأخضر والأخضر؟!
_ «يا لقسوته ياااااااااااااه!».
متعبة الأحداق مضتْ ترثي ذاكرة الأمس. متعبة الأحداق مضتْ تنتفض مرارا وتنتحب كعصفور جريح.
_ «يا لقسوته يااااااااااااه!».
ما كان عليها أن تنبشَ في أوراقه القديمة لِتُجَدِّدَ العهدَ بحروف شَكَّتْ للحظة في أنها تحفظها عن ظهر قلب. وما كان عليه أن يُحَرِّفَ مبنى أشعاره المترامية إليها أول ما فَكَّرَ في نشرها في كتاب. أَثَمَّة مَنْ تنسى حرفا كُتِبَ لها بمداد القلب (أو هكذا خَالَتْه)؟! قسوة مضاعَفة منه أن يَسرقَ عمرَها وأحلامَها الصغيرة، ثم يسرق ما تبقى لها من ذكرى: حُروفه.
_ «يا لقسوته يااااااااااااااه!».
كان عليه أن يفهمَ في وقت مبكر أن الحروفَ التي بَلَّلَتْ رسائلَه بنقيع وريده (أو هكذا خالتها) عادت من نصيبها وحدها، ولها وحدها حقّ التصرف فيها. وكان عليها أن تفهم أنه ما كان عليها أن تفتح َكتابَه لتُصيبَها لَعْنَتُه مجددا.
يكفي أن تنتبهَ إلى أنه عمد إلى تحريف تفاصيلها الصغيرة المضغوطة بين دفَّتي كتابه لتلعنَ العمرَ الذي صرفَتْه في البكاء على حروف رسمتْه في عينيها ملاكا.
- «يا لقسوته ياااااااااااااه!».
ما أعطاها غير حروف اخْتَلَسَها من عمر سابق... حروف صَنَعَتْ منها أميرةً مِن وَرق. حتى الحروف استكثرها عليها، ومضى يرتق بها عباءةَ سيرةٍ لم تكتملْ إلا في عيون قُرَّائه. قسوة منه أن يهدمَ المبنى على حساب معنى أبدا لن يسقطَ من حبل ذاكرتها.
* من مجموعة قصصية بعنوان: «كلّما ناداها رَجُلُها: صغيرتي»
كاتبة مغربية

بقلم : سعاد درير
copy short url   نسخ
25/06/2016
1495