+ A
A -
بغايوغو ! نَعَم، ذاك الرجل المنحدر من مالي، عرفناه في الوطن، تمّ استحضاره نموذجا للمستفيدين من خدمات أهل الخير، وكان واحدا ممن تَمَّ انتشالهم من هامش الفقر ووحل الحاجة تحت سماء الزمن الذي يتمادى في القسوة عليهم ويُمْطِرُهم حجارةَ بُؤْسٍ وغبنٍ ومحن، كان من حقهم البحث عن النجاة، فكانوا محظوظين ووجدوا الرحمة تحت مِظَلَّة قطر الخيرية.
لا غرابة أن تُذْكَرَ قطر كلما تعلّق الأمر بالاستثمارات التي يُقيمُها أهلُها هنا وهناك.. فالمولى جلّ شأنه أغدق عليهم مِن فَيْضِ نِعَمِه التي يغبطهم عليها الآخرُ، وهُم كانوا كرماء عند إشراكهم الآخرين في تذوّق هذه النِّعَم، ولو فكّروا بمنطق الأنانية لكان استثمارُهم قد اقتصر على مساحتهم الجغرافية التي طفق يقصدها الباحثون عن الرواتب المحفِّزة في كل القطاعات (التعليم، الصحة...) أو الباحثون عما يُغْري بالبقاء.
هذا عن الاستثمارات. نعود إلى قصة بغايوغو، المواطن البسيط الذي فقد مصدر رزقه الوحيد في بلده، فطرق باب قطر الخيرية لتُهَيِّئَ له ما أَهَّلَه للاندماج في الحياة العملية، وبثقةٍ أكبر.. كان تصرف هذه المؤسسة حكيما، والكُلُّ يعرف المثل الصيني الذي يقول: «لا تعطني كل يوم سمكة، إنما علِّمني كيف أصطاد السمك».
بيتُ القصيد عملُ الخير والصَّدَقَةُ، الصدقة التي من خلالها تفتح أنتَ بابا للرزق الْمُقَدَّر لمن لم يستوفوا نصيبهم منه.. الله كريم ورحيم، ومن تجليات كرمه ورحمته أن حَثَّ على الصدقة. الحكمة من الزكاة بالتالي هي أن تُنْصِفَ المحتاجَ وتمدُّ له جسرا للحياة الكريمة في أفق العدالة الإلهية.. معنى هذا أنك بتَصَدُّقِك على الفقير إنما أنتَ تُؤَدِّي واجبَك أمام الله.. تصورْ لو أنك قَصَّرْتَ في حق هذا الفقير فأخذ منك مولاك كُلَّ ما أعطاك، ستصبح مثله، وانظرْ من يعطيك حينها.
في القرآن الكريم، نجد بالحجة والبرهان أن الصدقةَ تُؤَهِّلُك للحصول على رزق مضاعَف، لماذا؟ لأنك ما أن تتصدق على الآخر حتى تحصل على أضعاف ما وَهَبْتَه.. أليس الله سبحانه وتعالى الذي يقول: «مَثَلُ الذين يُنْفِقُونَ أَمْوالَهم في سَبيل الله ِكَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ في كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ» (سورة البقرة، الآية: 261)؟! يا الله! أليس معنى هذا أن حَسَنَتَك الواحدة تُرَدُّ لك بسبعمائة ضعف؟! يقينا هذا ما سَتَجْنِيه.
في ما ناله بغايوغو من خَدَمات، نَقِفُ عند جهود صُنَّاع الغَد الْمُشْرِق وبُناة المستقبل الآمِن، هؤلاء الذين تجدهم مُتَكَتِّلين في مؤسسات وجمعيات تَخْدُمُ بالضرورة من تَقَطَّعَ بهم حَبْلُ النجاة. لِنُطْلِقْ على مبادرات هؤلاء اسم «صُنْدوق النَّجاة/ صُنْدوق الحَياة» كما أرتئي.
في محافل كثيرة يَتِمُّ التذكيرُ بعدد سكان كل بلد. عدد السكان في كل بلد يُقَدَّر بملايين.. لنفرض أن ثلاثة أرباع هذه النسبة من السكان عاجزون ومُعْدمون، ولنحتفظْ فقط بالرُّبْع المتبقي. لنأخذ أيضا العملة السائدة في كل بلد سواء أكانت جنيها أم درهما أم دينارا أم ريالا أم دولارا أم أورو... ماذا لو أن الرُّبع من سكان كل بلد تصدَّقوا بمبلغ تافه شهريا؟ مهلا، فهذا المبلغ التافه لن يتجاوز الجنيهَ الواحد أو الدرهم أو الدينار أو الدولار أو الأورو الواحد شهريا، وليتمّ جمع هذه المبالغ في «صندوق النجاة/ صندوق الحياة».
وانظروا الآن: لو قَدَّرْنا أن رُبع سكان البلد الواحد يعادل مليون شخص، فهذا معناه أننا سنوفر شهريا مليون جنيه أو مليون درهم أو مليون دينار أو مليون ريال أو مليون دولار أو مليون أورو... الآن نستخدم جدولَ الضرب لنرى كم سَنُوَفِّر سنويا في هذا الصندوق، ثم نستخدم جدولَ الضرب مجددا لنرى كم سنوفِّر لو أن ربع سكان البلد تجاوز المليونين والخمسة ملايين وأكثر..
هذه الصدقة الهَيِّنَة على الموسِر والْمُعْسِر فيها نجاة للمعدم وحياة.. ويكفي أن نتصور فقط ماذا بوسعها أن تُغَيِّرَ في حياتك هذه الملايين من الدراهم/ الجنيهات/ الدولارات... بهذه الملايين تَخلقُ عددا هائلا من مناصب الشغل للعاطلين وتَفْتَحُ عددا هائلا من البيوت وتَحُدُّ في وقت واحد من آفتين تُثْقِلان كاهلَ البلدان: البطالة والتسول.. لنؤمِنْ فقط بالفكرة ولْنَثِقْ في إمكانية تنفيذها حتى نَبْنِيَ بُلْدانَ غَدٍ باسِمةً، ثَرْوَتُها رِجال وعِزَّة وكرامة، ولَنْ تُبَعْثَرَ كرامة.
د. سعاد دَرير
copy short url   نسخ
23/06/2016
1320