+ A
A -
قصة قصيرة بقلم دكتور ـــ إبراهيم عرفات

دخل الفجر على «صابر الوكيل» وهو مايزال مضطرباً على الطريق. بدأ رحلة طويلة بسيارته المتهالكة بحثاً عن نجاة من الخراب الذي حل به. فلم تترك له الحرب الأهلية التي اندلعت في بلده خياراً إلا تلك السيارة العتيقة كوطن بديل. كان قبل شهرين يستشعر قدوم خطر جسيم إلى منطقته الواقعة على أطراف العاصمة التي قسمتها السياسة، مثلما قسمت الوطن بأكمله، إلى كتلتين: واحدة تحمل السلاح دفاعاً عن حكومة، برامجها لا ترضي، وأخرى تمثل معارضة، بدائلها لا تغري. بدأت الحرب في بلده لما توقفت السياسة. فالسياسة متى خمدت إلا وتستيقظ الفتنة، وأبواب المشاركة متى سُدت إلا وينفتح الطريق أمام الحرب.

قرّر صابر أخذ سيارته العتيقة قبل يومين فقط من وصول المعارك إلى منطقته ليخفيها في مرآب بعيد. فهي رأسماله العيني الوحيد الذي يملكه. تركها، ومن هناك عاد بصحبة زميل عمره «سليم الهادي» في سيارة سليم الكبيرة لكي يأخذ زوجته وابنيه ليفروا معاً إلى منطقة آمنة. لكن لم تمض إلا دقائق على بدء رحلة الهروب ووقع اشتباك عنيف بين المتصارعين أسفر عن سقوط قذيفة حارقة طالت المقعد الخلفي من سيارة سليم لتقضي على الفور على زوجة صابر وابنيه. ارتمى صابر من شدة الانفجار بعيداً فوق كومة رمال سارع فاحتمى بها. ولم تمض سوى ثوان ليدوي في أذنيه من جديد صوت قذيفة جديدة دمرت ما تبقى من السيارة وأحرقت جثة صديقه سليم الهادي.

تحامل صابر على نفسه وحمل أوجاعه ووقف على قدميه بعد أن توقف صوت الرصاص. سار نحو المرآب الذي ترك فيه سيارته. أدارها بسرعة مقرراً تخطي الحدود الغربية لمدينته ومنها إلى أقرب نقطة دخول إلى دولة مجاورة لبلده. شعر بالدنيا تميد تحت قدميه. فقد خذلته دولته فلجأ إلى جارتها التي تشترك معها وباقي دول الجوار في اللغة والدين والتاريخ وأيضاً في اللعنة. لكن اللعنة التي حلت ببلده هذه المرة كانت الأكبر، فليس أسوأ في الحياة من حرب أهلية تقتل وتحرق وتبيد. اختار صابر البديل الوحيد الممكن أمامه: الفرار من اللعنة الكبرى إلى أي لعنة أصغر حتى لو كلفته كرامته طالما ستبقيه على قيد الحياة.

عبر الحدود بسيارته الأشبه بسلحفاة تحتضر متسللاً من فجوة فتحتها سيارات النازحين من وطنه المكلوم، وتركتها دولة الجوار بلا رقابة عن عمد. فقد كانت تسعى وتخطط لدخول عشرات الآلاف من النازحين إليها، لتحاجج بهم أمام المنظمات الدولية طالبة مئات الملايين من العملات الأجنبية كمساعدات لرعايتهم، ولكي تباهي أمام شعبها والعالم بأنها موطن الأمان وملاذ المنكوبين.

سار صابر بسيارته عشرة كيلو مترات إلى أن تعطلت قبيل الفجر بالقرب من قرية مهجورة كانت أولى ملامح العمران الذي يصادفه منذ فراره من وطنه. ترجل من سيارته وسار بخطوات جمعت الأمل بالخوف والرجاء بالقلق. ثبت مكانه لما أحس بوقع أقدام تتابعه. لم يشأ أن ينظر خلفه واكتفى فقال في سره «إن شاء الله خيراً». واصل السير ودبيب خطوات المتتبع تلاحقه. وجد بيتاً بسيطاً بنيت جدرانه من أحجار بيضاء وترك بابه مشرعاً. تردد ماذا عساه أن يفعل، هل يدق الباب أولاً التزاماً بالأصول أم يدخل البيت مباشرةً بحثاً عن مساعدة؟.. خاف من البديلين معاً. من دبيب الأقدام التي تتبعه كظله ومن المجهول الذي قد ينتظره في ذلك البيت المهجور. توقف فجأة وعاد إلى الخلف خطوتين، فتوقف سير الأقدام خلفه. استرعت انتباهه كلمة مكتوبة بلون أحمر على حائط البيت هي «دمستان». حار فيها وفي معناها. سأل نفسه: أترى هل هي كلمة واحدة أم جمع لكلمتين؟ وهل عليه أن يقرأ أول حروفها بالضمة أم بالسكون. كان صابر يعرف مثل أهالي بلده وأهالي البلدان الواقعة في الجوار أن كلمة «ستان» تعني أرض أو بلد أو مكان. فمثلما أن أوزبكستان هي أرض الأوزبك وطاجيكيستان أرض الطاجيك، فقد تكون «دمستان» أرض من يختشون وعندهم دم أو على النقيض من لا يختشون وليس لديهم دم. لم يعرف. كما حار إن كان عليه أن يقرأ حرف «الدال» بالفتح ليكون معنى الكلمة «أرض الدماء» أو بالضمة ليكون معناها أرض الدمى. ظل لدقيقة وهو حائر بين الخيارين والخوف يتملكه من صوت أنفاس من يلاحقه والتي تيقن من وهجها أن صاحبها يقف خلفه على بعد خطوتين. استدار صابر بشجاعة ليفاجئ ملاحقه. لكن قبل أن يباغته سائلاً من أنت؟ فوجئ برجل فظ الملامح يسأله نفس السؤال: من أنت؟

أنقذ الموقف صوت سيدة طلت من داخل البيت المهجور. قالت بصوت خشن «يبدو إنه غريب يا غسان، لعله أحد الفارين بحياتهم من جحيم الحرب في بلده». عرف صابر أن اسم ملاحقه غسان وأن السيدة صاحبة كلمة وحكمة. اطمأن صابر إلى أن ملاحقه لن يضر به كما وضع كل رهانه على تلك المرأة.

قصَّ عليها بسرعة حكايته والنحيب يسيطر على صوته كلما تذكر مقتل زوجته وابنيه وصديقه «سليم الهادي» أمام عينيه. قالت له السيدة لا لوم عليك. لو كنت مكانك لفعلت نفس الشيء. كنت سأفرّ تماماً كما فررت. ثم توجهت نحو غسان فقالت: «ألم تكن ستفر أنت أيضاً يا غسان؟» تمتم الأخير ببضع كلمات ثم صمت لبرهة أعقبها بتنهيدة تدل على الحسرة والخوف. فأخذت السيدة الحكيمة من تمتمته وتنهيدته طرف الخيط، فقالت كنت من المؤكد ستفر وكنت سأفر قبلك أو ربما معك يا غسان. ألم يسبق لجدك قبل خمسين سنة أن فر لما اندلعت في بلدنا حرب ضروس؟ «أيها الغريب إن بلدنا مثلكم منكوب. الفرق بيننا وبينكم فقط في التوقيت. أحياناً ما تسبقوننا إلى الموت وأحيانا ما نسبقكم. الاجواء أيها الغريب غريبة. كلها مليئة برائحة الدماء كما تعج ببشر غافلين ضعفاء يجري التلاعب بهم كالدمى. إن أرضنا أيها الغريب مثل أرضكم جاهزة لسفك الدماء. هي أرض الدماء النازفة أو «دمستان» منذ زمنٍ بعيد. لكنها أيضاً تغص بالمتلاعبين بالعقول. لذا فهي أيضاً أرض الدمى والعرائس الخشبية. هي أرض قبل أهلها بأن يكونوا دمى فاستحل عليهم سفك الدماء».

لعن «صابر الوكيل» نفسه لما قبل بأن يكون دمية، ولعن كل من سفك الدماء في بلده. ولعن كل التاريخ الذي تعلمه. لعن نفسه وكل الشعوب التي اختارت أن تعيش كالدمى فاستحلت دماؤها.

copy short url   نسخ
10/06/2024
25