+ A
A -
سعيد السنيكاتب وصحفي

الحروب، مثل الحرائق إذا اشتعلت صارت محكومة بقاعدة: «معظم النار من مستصغر الشرر».. إذ يمكن إشعال حريق، يُراد له أن يكون صغيرًا.. لكن، سرعان، ما تتسع النيران، وتتمدّد بسرعة، لتخرج عن السيطرة، في أغلب الأحوال. لذا، فإن «الاحتلال الإسرائيلي»، يكذب، في زعمه، بأنّ اقتحامه «معبر رفح» من ناحية غزة، هو «عملية عسكرية محدودة»، إذ ليس بوسعه السيطرة على مسارها، مهما امتلك من قوة. لاسيما أنه صار مُجردًا من «هيبة الردع»، التي بدّدها «طوفان الأقصى» (7/‏10/‏2023).

معبر رفح يقع على «الشريط الحدودي» الواقع داخل قطاع غزة، ويفصلها عن مصر، والمعروف باسم «محور فيلادلفيا» أو صلاح الدين.. هذا المحور مُحتسب منطقة عازلة أو آمنة، طبقًا لـ «اتفاقية السلام المصرية- الإسرائيلية»، عام 1979. لذا فالمعبر يشغل مكانة استراتيجية مهمة لمصر، وقطاع غزة معًا، فهو البوابة المصرية إلى فلسطين، والمنفذ البري الوحيد لقطاع غزة إلى العالم الخارجي عبر مصر. «مدينة رفح»، يفصلها عن الأراضي المصرية كيلو مترين.. يعيش فيها حاليًا مليون و300 ألف نازح من شمال القطاع.. صاروا الآن تحت نيران معركة رفح.

«رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتانياهو»، ما زال غارقًا في أوهامه، بسحق حركة حماس، وإرغامها على الاستسلام، وإلقاء السلاح، والخروج من قطاع غزة (حسبما يردّد وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن، من آن لآخر). تمامًا مثلما يتوهم، تحرير أسراه، لدى المقاومة الفلسطينية، بالقوة العسكرية.. مع أن الأسرى المُحررين في مرات سابقة عديدة.. كانوا، نتاجًا لصفقات تبادل مع حركة حماس.

كما أن عدوانه المتوحش على قطاع غزة، طوال الأشهر السبعة الماضية، تكفل بالتدليل، والإثبات، بأن سحق حماس غير ممكن عمليًا، وباعتراف مراكز الأبحاث والدراسات الإستراتيجية الغربية، وقادة إسرائيليين عسكريين سابقين. فـ «حماس»، تمتلك فكرًا، وعقيدة، يحكمان مساراتها، وممارساتها الحياتية بالعموم، وفي القلب منها رؤيتها للقضية الفلسطينية، التي ترتكز على فكرة «المقاومة»، لتحرير الأراضي الفلسطينية المُحتلة. فالمعلوم، والمُجرب، والثابت تاريخيًا، أن الأفكار والعقائد لا تموت.. حتى، ولو غيّب الموت، دُعاتها، أو أصحابها.

لماذا رفح الآن؟. بينما «نتانياهو»، يرفض استيعاب معطيات الواقع الميداني في قطاع غزة، وفشْل «جيش الاحتلال» في تحقيق انتصار عسكري ذي قيمة، طوال حربه على القطاع خلال أكثر من 214 يومًا. ومع الفشل الذريع في تحقيق «الأهداف» التي حدّدها لحربه البربرية، التي نجحت فقط في الإبادة الجماعية لسكان غزة، وتدمير سُبل الحياة، لجأ نتانياهو، منذ أربعة أشهُر تقريبًا، إلى إشهار ورقة «اجتياح رفح» جنوب قطاع غزة، والتلويح بها، للضغط على «المقاومة الفلسطينية»، تليينًا لموقفها التفاوضي، وإرغامها، للقبول بإملاءاته، وشروطه لوقف إطلاق النار، وعلى رأسها استعادة الأسرى الإسرائيليين.

وعلى وقع الانقسامات الداخلية التي تفتك بالمجتمع الإسرائيلي في الأراضي المحتلة، من تهجير داخلي لنحو 400 ألف إسرائيلي من سكان الشمال، وغلاف غزة، ورحيل مثلهم نهائيًا من الأراضي المحتلة، إلى بلادهم الأصلية، بلا عودة، في هجرة معاكسة، وفي ظل تفاقم احتجاجات الشارع الإسرائيلي؛ تضامنًا مع عائلات الأسرى الإسرائيليين لدى المقاومة.. طلبًا لاستعادتهم، عبر صفقة تحفظ حياة الباقين منهم، فقد فشل نتانياهو، ومعه الأميركان، في انتزاع صفقة لتبادل الأسرى، بـ «الشروط الإسرائيلية والأميركية»، الهادفة لتجريد المقاومة، من إنجازها الميداني على أرض المعركة، بما يسمح لإسرائيل، بادعاء الانتصار في عدوانها الهمجي على قطاع غزة، وتحقيق أهدافها التي باتت بعيدة المنال.

إنّ «ورقة اجتياح رفح»، إذن، التي أرادها نتانياهو.. أداة لكسر إرادة المقاومة.. لم تفلح في تليين مواقف «المقاومة»، وإضعافها تفاوضيًا.. بل، أظهرت حركة حماس، صلابة، وتمسكًا بشروطها لصفقة التبادل، بالوقف التام لإطلاق النار، وانسحاب الاحتلال من القطاع، وإطلاق عدد من الأسرى الفلسطينيين، ذوي المحكومية العالية.

ومع إخفاق «نتانياهو»، ومعه الأميركان، في انتزاع صفقة لتبادل الأسرى، بـ «الشروط الإسرائيلية والأميركية»، الهادفة لتجريد المقاومة، من إنجازها الميداني على أرض المعركة. فإن «نتانياهو»، صار هو ذاته «أسيرًا»، لورقة «رفح»؛ بسبب الرعونة في قطع الوعود على نفسه يوميًا، باجتياحها.. حتى ولو تم التوصل إلى صفقة للتبادل. مع إعلان حماس قبولها مشروع صفقة توصل إليها الوسطاء بموافقة الإدارة الأميركية، العالقة بين الانتخابات الرئاسية، وخشيتها من توسع نيران الحرب في المنطقة، هنا، لم يجد نتانياهو مفرًا من الذهاب إلى رفح في معركة جديدة خاسرة.. لن يكسبها.. ولن يحرر أسراه.. مثلما خسر معاركه في شمال غزة.

حال «نتانياهو» في إقدامه على معركة رفح المتوقعة خسارتها.. يشبه حال الشاعر العربي الأشهر أبي الطيب المتنبي (ولد في القرن العاشر بالكوفة العراقية).. الذي قتله بيت من أشعاره قال فيه: «الخيل والليل والبيداء تعرفني… والسيف والرمح والقرطاس والقلم». عندما أغار فُرسان على «المتنبي»، ورفاقه ذات مرة، وهو في الطريق، فلما شرعَ في الهروب.. أوقفه غلامه، مذكرًا إياه بهذا البيت من شعره، فعاد للقتال، ليلقى حتفه، صريعًا. تمامًا، شأن إقدام «نتانياهو» على «اجتياح رفح».. لتكون نهاية سوداء لحياته السياسيّة.{ الجزيرة نت

copy short url   نسخ
10/05/2024
5