+ A
A -
مركز الزيتونة قسم الأبحاث

مع أن استعراض الخيارات الإسرائيلية عن «اليوم التالي» في غزة، بغض النظر عن فرص تحقيق أي منها، يستحضر مزاعم رئيس مجلس الأمن القومي الإسرائيلي تساحي هنغبي بشأن «وجود مكان لشركاء إقليميين في إعادة إعمار غزة لخلق واقع جديد، حيث سيتطلب الأمر تشكيل قوى إقليمية ودولية من أجل الحفاظ على النظام، وفرض القانون في القطاع»، لكن الولايات المتحدة أوضحت، في محادثاتها مع دول المنطقة، أنها غير راغبة بإرسال قوات شرطة أو جيش نيابة عنهم للقطاع كجزء من قوة حفظ سلام دولية، دون استبعادهم لذلك بشكل قاطع مقابل شروط مختلفة، بما في ذلك إطلاق عملية السلام، التي يكون هدفها إقامة دولة فلسطينية.

الأهم من الاعتبارات الإسرائيلية، أن الدول التي قد تُدعى لإرسال قواتها الأمنية إلى غزة، تخشى من الاستمرار في التواجد فيها حتى إشعار آخر، بما يتعارض مع توجهاتها السياسية المعلنة التي تؤكد على ضرورة تواجد السلطة الفلسطينية في القطاع باعتبارها صاحبة الولاية الجغرافية عليه، وخشيتها أن تخدم توجهات الاحتلال بالقفز عن السلطة، وإماتة الحل السياسي الذي يكمن قطاع غزة في القلب منه، وإدراكها أن أي خطوة من هذا النوع قد تطوي صفحة العملية السياسية برمّتها، بما يتعارض مع مواقفها الداعمة دوماً لاستمرار مسيرة التسوية واستئناف المفاوضات.

الخلاصة، أن هذه الدعوات لاستقدام قوات عربية ودولية لم تجد طريقها للتجاوب، حتى الآن، من مختلف الأطراف المقصودة، لأكثر من سبب يخصّ كلاً منها، لعل أولها: رغبتها بعدم التدخل في الشؤون الداخلية للساحة الفلسطينية قناعة منها بأنها مستنقع سيكون صعباً الخروج منه بعد التورط فيه، ثانيها: المواقف الصارمة التي أصدرتها المقاومة، واعتبارها لأي قوات تدخل إلى قطاع غزة بوصفها قوات احتلال، والتعامل معها انطلاقاً من هذا التوصيف، وثالثها: عدم رغبتها بتخليص الاحتلال من أزمته الداخلية مع غزة، ومكافأته على ما ارتكب من مجازر ومذابح بحقّ الفلسطينيين، وفي الوقت ذاته عدم استعداده للتجاوب مع الأطروحات السياسية التي تطرحها تلك الدول مقابل إمكانية انخراطها في الملف الفلسطيني لليوم التالي بعد انتهاء الحرب.

رابعاً: مواقف الأطراف المختلفة

1 - حماس وقوى المقاومة

تؤكد قوى المقاومة وعلى رأسها حماس أن مطلبها الأساسي اليوم هو وقف العدوان على غزة، وانسحاب العدو، وعودة النازحين، وفتح المعابر وبدء برنامج الإعمار، وتحقيق صفقة أسرى مشرفة، وما عداه من خيارات وسيناريوهات حول اليوم التالي قابلة للنقاش، طالما بقيت في إطار البيت الفلسطيني، بعيداً عن التدخلات الخارجية، دون التمترس خلف خيارٍ بعينه، بما يضمن انخراط الفلسطينيين في ترتيب شؤونهم الداخلية، بما في ذلك تشكيل حكومة توافقية، والتحضير لانتخابات عامة، بعيداً عن المواقف الأحادية من طرف واحد.

ولا تخفي المقاومة إصرارها على تحقيق أهدافها، خصوصاً بعد التضحيات الكبيرة التي قدمتها، وبعد الصمود الأسطوري للحاضنة الشعبية وتضحياتها الكبرى، والذي يجب أن يكون منجزه متناسباً مع تضحياته.

2 - السلطة الفلسطينية

لم يكن سراً أن مواقف رام الله بقيت مترقبة لسير العدوان في غزة، صحيح أن مواقف تقليدية صدرت عن إدانته ورفضه، ومطالبة المجتمع الدولي لوقفه، لكن الأروقة الأمنية والسياسية داخل المقاطعة تراقب الوضع الميداني في غزة عن كثب، وتتحيّن فرصة سقوط حماس نهائياً للعودة من جديد. وستسعى أن لا يكون ذلك على «ظهر دبابة إسرائيلية»، ولكن من خلال توجّه سياسي دولي يُعيد من جديد عملية التسوية مع الاحتلال إلى السكّة.

ولمّا لم تسِر الأمور وفق ما تشتهيه السلطة، وبقيت حماس واقفة على أقدامها، فإن رغبتها بالعودة إلى «عش الدبابير» المسمى غزة تراجعت، على اعتبار أنها ليست في وارد الدخول من جديد في مزيد من الإشكاليات السياسية والأمنية، بالإضافة إلى تحمّل مزيد من الأعباء الاقتصادية والمعيشية، ترى أنها في غنى عنها، بانتظار حصول تطورات سياسية ودبلوماسية تُعيد من جديد طرح توجهات أخرى حول مستقبل السلطة في غزة، تحقق لها أفضل العوائد بأقل قدر من التكاليف.

مع العلم أن تشكيل السلطة لحكومتها الجديدة برئاسة محمد مصطفى جــــــــــــــــــاءت استجابة للمطالب الغربية والأمريكية الداعية لتنفيذ سلسلة إصلاحات في أجهزتها ومؤسساتها كي تكون «متجدّدة ومنشّطة»، لكن هذه الخطوة قوبلت برفض فصائلي واسع لأنها أتت بمعزل عن التوافق الوطني الشامل.

3 - الدول العربية

يولي الاحتلال أهمية كبيرة لمشاركة دول المنطقة والعالم في إعادة التأهيل الاقتصادي والمادي للقطاع، بوصفها إراحة له من تحمل العبء كله، ولذلك تواترت التصريحات الإسرائيلية بأن إعادة إعمار غزة سيتم تمويله من دول الخليج، التي سارع بعضها للتوضيح بأنها لن تفعل ذلك إلا إذا قدمت لها خريطة طريق «جدية» ذات رؤية واضحة من حيث الإطار الزمني، وبهدف إنشاء دولة فلسطينية، وهو ما يتعارض مع الموقف الإسرائيلي.

على الأرض، فقد أنشأت عدد من دول المنطقة، مرافق لتحلية المياه في غزة، وأرسلت مساعدات إنسانية، وأنشأت مستشفيات داخل القطاع. ولعل أنشطتها الإنسانية الواسعة النطاق، وبشكل رئيسي في إطار الأمم المتحدة، بجانب الحفاظ المستمر والحازم على إطار العلاقات مع الاحتلال، تُشير إلى استعدادها للعب دور ما في «اليوم التالي» في قطاع غزة.

تواصل مصر، ولما لها من خصوصية جغرافية مع غزة، الترويج لمبادرات لإنهاء الحرب، وتشكيل حكومة تكنوقراط في غزة والضفة، وتخلي حماس عن حكمها بعد التوصل لوقف إطلاق النار، وهذا خيار من شأنه خدمة مجموعة أهداف: أولها منع التدهور إلى حرب إقليمية، وثانيها عدم تعريض مصالح مصر للخطر؛ وثالثها إنهاء الحرب في أسرع وقت ممكن، ورابعها الحدّ من الأضرار على عائدات قناة السويس وقطاع السياحة المصري، وخامسها منع موجات الهجرة الجماعية لسكان غزة للحدود المصرية، إمّا طوعاً أو بتشجيع مباشر من الاحتلال؛ وسادسها وضع مصر كعامل مركزي في عمليات الوساطة والمساعدات الإنسانية وإعادة إعمار غزة.

مع أن الخيار الذي يحظى بأكبر قدر من الدعم بين صناع القرار الإسرائيليين، يتمثل في سيطرة مصر على القطاع، وهو الطرح ذاته إبّان معاهدة كامب ديفيد Camp David أواخر السبعينيات، لكنها رفضته، وبعد مرور أكثر من أربعة عقود يظهر أن الرفض ما زال قائماً، على الرغم من الإغراءات المقدمة لها، لكن الإسرائيليين والأمريكيين، لم يتخلوا بعد عما يسمى «الخيار المصري». في الوقت ذاته، يكشف فحص المبادرات الإقليمية عن «اليوم التالي» عن تباينات مع الاحتلال، أهمها أن تلك الخيارات تجعل من حماس لاعباً سياسياً أساسياً، وأعطيت مكاناً في اليوم التالي لغزة، ليس كحاكم حصري، ولكن كجزء من الحكومة المقبلة التي سيتم تشكيلها، وهذا احتمال يبدو غير مقبول لدى الاحتلال، وربما يتعارض مع الموقف الأميركي الذي يرى أن حماس ليست لاعباً شرعياً له الحق بالسيطرة على القطاع، وفي الوقت ذاته بقاء فجوات واضحة بين المبادرات العربية نفسها، بما يعكس اختلافات في الرأي في المنطقة العربية.

4 - المحددات الإسرائيلية

يبدو من الصعب إخفاء حالة الإحباط التي تحيط بالموقف الإسرائيلي من فرضيات اليوم التالي في غزة بعد تراجع جملة المطالب التي رفعها الاحتلال عشية بدء عدوانه الدموي، فلا أعاد أسراه من غزة، ولا قضى على حماس، ولا رفعت الراية البيضاء، ولا بقي الدعم الدولي له معلناً بدون حساب، بالإضافة إلى ما يواجهه جنوده من مواجهات دامية في قلب غزة، وما أسفر ذلك عن تفاقم المظاهرات الداخلية المطالبة بوقف الحرب، وإقالة حكومة اليمين، وإعادة المختطفين؛ أي أن سلة الأهداف التي أعلنها لم تجد طريقها للتحقيق حتى الآن.

وما زال الاحتلال يضع فيتو أمام جملة من السيناريوهات الخاصة باليوم التالي؛ أهمها بقاء حماس في صدارة المشهد السياسي، وعودة السلطة الفلسطينية إلى غزة، والانفتاح على ما سواها من خيارات، دون أن يمتلك «بوليصة تأمين» لتحقيق تطلعاته السياسية والأمنية، لأنه لم يعد لوحده صاحب القول الفصل في الوضع القائم، وهناك العديد من العوامل والمحددات التي باتت تُشكّل قيوداً على مواقفه، بما في ذلك عجزه عن استعادة أسراه، وحالة الاستقطاب الداخلية التي بدأت تعود إلى ما كانت عليه قبل الحرب، وتفاقم الضغوط الدولية الخارجية عليه، الرسمية والشعبية، بالإضافة إلى استمرار المقاومة في غزة في التصدي لجنوده وقواته، وما يدفعونه من أثمان باهظة بصورة يومية.

5 - المواقف الغربية والأميركية

شكّل الانحياز الغربي للاحتلال في محرقته التي نفذها ضدّ غزة ذروة النفاق والتواطؤ غير المسبوقين، فقد منح الاتحاد الأوروبي European Union والولايات المتحدة الاحتلال ضوءاً أخضر، و«شيكاً مفتوحاً على بياض»، لتنفيذ ما يحلو له من مجازر ومذابح دون أن يرفّ لهم جفن، على العكس من ذلك، فقد دأبت آلتهم الدعائية ووسائلهم الإعلامية على تقديم مزيد من الذرائع والتبريرات للاحتلال، وما فتئت محافلهم الإعلامية والبحثية تكرر وتعيد ما حصل يوم 7/‏‏10/‏‏2023 باعتباره يستحق كل ما تقوم به آلة الحرب الإسرائيلية ضدّ الفلسطينيين في غزة.

ومع مرور الزمن، تراجع التأييد الغربي للحرب على غزة بصورة لا تخطئها العين، صحيح أنه ما زال باقياً، لكنه ليس بالدرجة ذاتها، حتى المستويات الرسمية باتت تطالبه بوقف العدوان، بل وتحمله مسؤولية معاناة وقتل المدنيين، وتنادي بالبحث عن مسار سياسي بديلاً عن هذا المسار الدموي.

وأصبحت الدوائر الغربية، بما فيها بعض الأميركية، تتحدث عن صيغة ما لإشراك حماس في المشهد السياسي لغزة في اليوم التالي، بعد أن استبعدتها في بداية الحرب، لكن تصديها لآلة حرب الاحتلال طوال أكثر من مئتي يوم، وما ارتكبه الصهاينة من جرائم ضدّ الإنسانية في غزة، أجبر الغربيين على إعادة النظر في مواقفهم السلبية، في محاولة لإيجاد حالة من التوازن المفقود طوال الفترة الماضية، عقب ما شهدته أوساطهم الشعبية والجماهيرية والجامعية والنقابية وغير الحكومية من مظاهرات تضامنية مع الفلسطينيين، ورافضة لمواقفهم الرسمية.

اليوم، تبدو المواقف الغربية، وتحديداً الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي منفتحين على أي خيار وسيناريو لليوم التالي في غزة من شأنه وقف حالة الحرب الدائرة، شريطة عدم تصدر حماس للمشهد السياسي في غزة، وبما يضمن أمن غلاف غزة، وعدم تكرار ما حدث في تشرين الأول/‏‏ أكتوبر، وضمان حالة من الهدوء الأمني في غزة لسنوات طويلة قادمة في ضوء خشيتها من تمدد الحرب إلى جبهات إقليمية أخرى في المنطقة، الأمر الذي من شأنه تفجير الوضع فيها بما يتعارض مع المصالح الغربية.

خامساً: السيناريو المرجح

تُظهر القراءة المتأنية للسيناريوهات الواردة أعلاه أن هناك حالة من التداخل فيما بينها، وليس هناك من سيناريو بعينه يمكن ترجيح كفته على سواه، في ضوء تعقّد المشهديْن السياسي والميداني، وعدم توفر أفضلية لخيار بحدّ ذاته على الخيارات الأخرى، مما يستدعي الحديث عن حالة من الدمج بين عدد منها، وصولاً لاستقراء أقرب إلى الدقة لما سيكون عليه اليوم التالي في غزة بعد انتهاء الحرب.

يظهر السيناريو المتعلق ببقاء الاحتلال المؤقت في غزة، مع عودة تدريجية للسلطة الفلسطينية إليها، وتراجع ملموس لحماس عن المشهد السياسي هو السيناريو الذي قد تلتقي عليه حكومة الاحتلال مع الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين، في ظلّ استبعاد إعادة الاحتلال الدائم للقطاع، ودعوة قوات عربية ودولية، واستنهاض أدوار العشائر. غير أن كفاءة أداء المقاومة وصمودها والتفاف الحاضنة الشعبية حولها، سيفرض شروطه في النهاية من خلال صفقة تبادل واسعة تتضمن انسحاباً إسرائيلياً كاملاً من قلب القطاع، وفتح المعابر وعودة النازحين، وبدء الإعمار، مع عمل ترتيبات مناسبة ضمن توافق داخلي فلسطيني يحافظ على سلاح المقاومة، دون ضرورة أن يكون لها دور ظاهر مباشر في إدارة القطاع.

سادساً: التوصيات

1 -صياغة توجه وطني فلسطيني متوافق عليه بشأن مسألة «اليوم التالي» في غزة، مع التركيز على مجالات الاتفاق المحتمل بين مختلف المكونات الفلسطينية، على قاعدة المحافظة على الثوابت، والمصالح العليا للشعب الفلسطيني.

2 - تقديم مزيد من الدعم والإسناد للجبهة الداخلية في غزة كي تُشكّل ظهيراً داعماً للمقاومة، وقدرة على الصمود أكثر في فرض مطالبها وشروطها على الاحتلال، ومواجهة مظاهر الاحتكار والاستغلال التي يواجهها النازحون في مخيمات الإيواء.

3 - إبداء المرونة اللازمة من الأطراف الفلسطينية بهدف جسر الفجوات فيما بينها للحيلولة دون حصول الاحتلال على فرصة تنفيذ أجندته الأمنية في غزة، وحشد المواقف اللازمة مع الأطراف الإقليمية والدولية لضمان الحفاظ على المصالح الفلسطينية.

4 - العمل مع كل الأطراف للوصول إلى وقف العدوان بصورة نهائية، لأن استمراره يعني مزيداً من استنزاف الفلسطينيين في غزة: بشرياً واقتصادياً وأمنياً.

5 - التواصل مع مصر لفتح معبر رفح بصورة طبيعية.

6 - دعوة المقاومة لاستخدام ورقة المحتجزين الإسرائيليين في مزيد من الضغط على الرأي العام الإسرائيلي الداخلي للضغط بدوره على حكومته لوقف الحرب، وإبرام صفقة تبادل مشرفة.

7 - توسيع عمل الروافد المساندة للمقاومة شعبياً ورسمياً في المحافل الدولية والغربية لاستعادة الرواية الفلسطينية، والإطاحة بسردية الاحتلال المزوّرة، وإعادة الأمور إلى نصابها أننا شعب واقع تحت الاحتلال، ونمارس مقاومتنا المشروعة ضدّه وفق الحقوق والمـــــواثيـــــق الدولية.

copy short url   نسخ
08/05/2024
0