من بين ردود الفعل الغاضبة التي اجتاحت العالم بأسره، ومن ذلك الدول الغربية، استوقفني رد فعل رئيس الوزراء الكندي جاستن ترودو: «يعيش المسلمون مرارًا خسائر وآلاما لا يمكن تخيلهما في الأماكن التي يحتاجون لأن يشعروا بالأمان فيها، أنتم في قلوبنا وعقولنا، فنحن إلى جانبكم في هذا الوقت العصيب».
صحيح أن ردود الفعل الغربية، في عمومها حملت تنديدا واسعا بهذه المذبحة، لكن ترودو وحده من وضع النقاط فوق الحروف وهو يتحدث عن عمل إجرامي تعرض له مسلمون في سياق أعمال ممنهجة تستهدفهم تحديدا.
«الإسلاموفوبيا» مفهوم يعني حرفيا الخوف الجماعي المرضي من الإسلام والمسلمين، إلا أنه في الواقع نوع من العنصرية قوامه جملة من الأفعال والمشاعر، والأفكار النمطية المسبقة المعادية للإسلام والمسلمين، لذلك جاءت بعض ردود الفعل الغربية خالية من أي إشارة للمسلمين في معرض إدانتها لهذا العمل الوحشي، واكتفت بالتعاطف مع نيوزيلندا، وهي جديرة بالتعاطف بالتأكيد، لكن تجاهل حقيقة أن الضحايا كانوا مسلمين، هو تجاهل مقصود لحقيقة صارخة تتمثل في وجود تيارات عنصرية واسعة سُمح لها، عبر كل الطرق المتاحة، بتحويل الإسلام والمسلمين إلى أهداف للكراهية العمياء، وهو ما ذهبت إليه الصحف العالمية في معرض تعليقها على هذه الجريمة المروعة، إذ نبهت «الغارديان» البريطانية من أن إرهاب اليمين المتطرف كان في تصاعد في العقد الأخير من القرن العشرين، مشيرة إلى أنه في عام 2017، وقعت «5» هجمات إرهابية في المملكة المتحدة أرجعت إلى المتطرفين اليمينيين، أما في أميركا فإن نشاط اليمين المتطرف العنيف كانت له علاقة بقتل «50» شخصا على الأقل عام 2018.
وأشارت الصحيفة إلى إنه «خلال العقد الماضي، يمكن الربط بين 73.3 في المائة من كل أعمال القتل المرتبط بالتطرف في الولايات المتحدة وبين المتطرفين اليمنيين المحليين، داعية المعنيين بأن يتجاوز دعم المسلمين مجرد التعاطف والدعاء.
أما صحيفة «نيويورك تايمز» الأميركية، فاعتبرت أن كل من ساعد على ترويج ونشر أسطورة أن المسلمين يمثلون تهديدا عالميا، «أيديهم ملطخة بالدماء»، وقالت إن هذه المجزرة تعد أحدث دليل على تنامي أيديولوجية اليمين المتطرف في الغرب، القائمة على فكرة تفوق العرق الأبيض، داعية إلى اجتثاث هذه المشكلة من جذورها، مشيرة إلى أن فكرة «المسلمين يمثلون تهديدا»، تتردد أصداؤها في سياسات يعتمدها الرئيس الأميركي دونالد ترامب، على سبيل المثال، لا سيما موقفه الرافض للمهاجرين.
وأوضحت أن ترامب، برر كذلك دعواته إلى إقامة جدار حدودي مع المكسيك، بأنه «يريد حماية الأميركيين من قوافل المهاجرين التي تضم شرق أوسطيين».
وأضافت الصحيفة، أن مخاطر «القومية البيضاء»، ليست قاصرة على الولايات المتحدة، بل تعكس أيديولوجية يروج لها عدد من قادة العالم.
وأشارت إلى أن أستراليا كذلك أسهمت في الخطاب المعادي للمسلمين، ولفتت إلى احتجاجات شهدتها البلاد عام 2015، من قبل جماعة يمينية تسمي نفسها «استعادة أستراليا».
وقالت إن المتظاهرين حينها رفعوا لافتات مكتوبا عليها: «الإسلام عدو الغرب»، و«أوقفوا أسلمة أستراليا»، وغيرها من العبارات المسيئة.
وكان لافتا ومؤلما ووحشيا للغاية تعليق السيناتور الأسترالي فريزر أنينغ، على اعتداء كرايست تشيرش، حيث حمّل المسؤولية لـ «برنامج الهجرة الذي سمح لمسلمين متعصبين بدخول نيوزيلندا في المقام الأول»، وقد قال ما قاله والدماء مازالت تسيل في المسجدين، ما دفع أحد الحضور إلى كسر بيضة على رأسه، خلال مؤتمر صحفي عقده أمس.
مزاعم السيناتور الأسترالي لا أساس لها من الصحة، لأن برنامج الهجرة النيوزيلندي لاعلاقة له بالجريمة فمن قام بها زائر استرالي، وليس مواطنا نيوزيلنديا، وهذا المجرم ينتمي لفكر وتيار يميني متطرف، يقوم على معاداة الآخرين كما هو حال السيناتور الأسترالي الذي تطوع لتبرير جريمة وحشية لا يمكن تبريرها.
لا دين للإرهاب، فهو أيديولوجيا متطرفة، أججها أصحاب مصالح سياسية، وعندما أتحدث عن تصريحات السيناتور الأسترالي أنينغ، فإن الأمر لا يتعلق بالسياسات الرسمية لهذا البلد، فقد قررت أستراليا منع دخول الصحفي البريطاني اليميني المتطرف المعروف بتعليقاته الاستفزازية ميلو يانوبولوس غداة وصفه الإسلام بأنه «همجي» و«غريب»، وقال وزير الهجرة دافيد كوليمان في بيان إنّ «تعليقات ميلو يانوبولوس على مواقع التواصل الاجتماعي بشأن الهجوم الإرهابي في كرايست تشيرش مروعة وتثير الكراهية والانقسام».
بدأت بردود الفعل الغربية، على اعتبار أن رد الفعل في العالمين الإسلامي والعربي مفروغ منه، لكن الأمر ليس على هذا النحو، وعندما استشهدت بما تحدثت عنه «نيويورك تايمز» حول تنامي أيديولوجية اليمين المتطرف في الغرب، القائمة على فكرة تفوق العرق الأبيض، ودعوتها إلى اجتثاث هذه المشكلة من جذورها، فإنه من المهم أيضا الحديث عن تنامي الأيديولوجية المعادية لكل ماهو إسلامي في بعض الدول العربية، كما هو الحال في مصر والإمارات، حيث الإشارات التي يرسلها نظاما البلدين في غاية الخطورة على صعيد تأجيج المشاعر ضد المسلمين والدفع باتجاه مجازر مروعة على غرار مجزرة
«كرايست تشيرش»، إن ما يروج له السيسي وآل زايد، والحملات الإعلامية المأجورة التي «تُطبل» لآرائهم كلها عوامل إضافية، بل رئيسية، في تقديم الدافع لليمين المتطرف في الغرب من أجل ارتكاب جرائم بشعة ضد المسلمين، وإذا كان هذا هو حال الخطاب السياسي والإعلامي في دول عربية كمصر والإمارات، فإن علينا أن نترقب الأسوأ، بعد أن أعطى النظامان الضوء الأخضر لقتل وسحل المسلمين، والمتأمل في ردود الفعل الصادرة عن هذه الدول سيصاب بالدهشة، بل بالغثيان، حيث السعودية التي تدعي إنها حامية المسلمين اكتفت ببرقية تعزية وسقطت أقنعة بعض مغرديها من المشاهير فيما واصلت قناتها العبرية استفزاز مشاعر المسلمين بتسميتها لمنفذ العمل الإجرامي بـ «مهاجم المسجد»، بينما حكومته وصفته مباشرة بالإرهابي !
هل ستقوم المملكة العظمى بالدعوة لمؤتمر عاجل لمنظمة التعاون الإسلامي المنوط بها حماية المسلمين أم إنها مشغولة مع هيئة الترفية واستعراض الجمبازيات الأوروبيات وسط مهرجان الملك عبدالعزيز للإبل !!.
المرجح أنها لن تفعل شيئا، شأنها شأن مصر والإمارات، إذ أن الذين يحرضون ضد مسلمي المهجر يعرفون قبل غيرهم أن ما حدث يتحملون مسؤوليته جنبا إلى جنب مع اليمينيين المتطرفين، الذين يقف خطابهم الكريه وراء هذه المجازر البشعة.
وفي المقابل كانت تركيا الرائعة بمواقفها الداعمة للقضايا الإنسانية والإسلامية في الموعد، إذ أرسل الزعيم أردوغان نائبه ووزير خارجيته إلى نيوزيلندا للوقوف على تفاصيل الحادث الإرهابي وتقديم الدعم والحماية للمسلمين هناك كما هو دورها الشامخ في مختلف القضايا..
وهنا يبرز الفرق بين من يحمي الدين بالفعل
وبين من يكتفي بالأقوال والشعارات..!
بالنسبة لنا هنا في قطر فقد عبر حضرة صاحب السمو الشيخ تميم بن حمد آل ثاني أمير البلاد المفدى عن إدانته واستنكاره الشديدين لهذا الهجوم، مؤكدا على موقف دولة قطر الثابت من نبذ الإرهاب والتطرف مهما كانت الدوافع والأسباب، لكن قطر لم تكتف يوما بالإدانة والشجب، إذ كانت قضية مكافحة الإرهاب على رأس أولوياتها، وهي نادت على الدوام بتجفيف أسبابه المتمثلة في الفقر والبطالة، وتقديم فرص التعليم والتدريب والتوظيف، وتكريس قيم التسامح التي دعا إليها ديننا العظيم.
كم من الضحايا الأبرياء يتعين أن يسقطوا قبل التوصل إلى تعريف واضح للإرهاب يمكن عن طريقه استئصال هذه الظاهرة.؟
وكم من الضحايا سيسقطون قبل استئصال أفكار اليمين المتطرف الذي كان وراء مذبحة نيوزيلندا.؟
في يناير 2015، شهدت العاصمة الفرنسية باريس، مسيرة «الجمهورية»، شارك فيها أكثر من «40» من قادة وزعماء دول العالم، عقب هجمات استهدفت عدة مواقع كان أبرزها مقر مجلة «شارلي إيبدو» الساخرة، فهل سنشهد مسيرة عالمية من أجل المسلمين الذين قتلوا في نيوزلندا، وهل ستكون هناك إجراءات صارمة تُجرّم دعاة اليمين المتطرف، من أجل منع ارتكاب المزيد من الجرائم العنصرية.
إن العالم بأسره على المحك اليوم، إن كان جادا في مكافحة الإرهاب واستئصاله، فهو لا دين له ولا قيم ولا أخلاق، وقد حان الوقت لمواجهته بأكثر من بيانات الشجب والاستنكار.. بالحزم والحسم والاستنفار