+ A
A -
حسين عبد العزيز كاتب وإعلامي سوري

ما الذي يدفع طلبة ليسوا من أصول عربية ولا إسلامية في أغلبهم، ولا يربطهم تاريخ وثقافة مشتركة مع أهالي غزة، أن يواصلوا منذ منتصف الشهر الماضي مظاهراتهم المناهضة للجريمة التي يرتكبها الاحتلال الإسرائيلي كل يوم في قطاع غزة؟ على الرغم من الضغوطات الشديدة التي يتعرضون لها من الشرطة الأميركية: بعضها تهديدات علنية وبعضها الآخر تهديدات مبطنة من جهاتٍ غير رسمية.

كيف يمكن تفسير مستوى الحس الأخلاقي العالي عند الطلاب الأميركيين بمختلف انتماءاتهم الدينية والثقافية عندما يصرون على التظاهر حتى يوقف الاحتلال الإسرائيلي حربه على غزة؟ وكيف يمكن تفسير المستوى المعرفي والسياسي عند هؤلاء الطلاب الذي رفعوا شعارات «فلسطين من النهر إلى البحر» في تناقض مع السردية الإسرائيلية التاريخية؟

ما هو الفارق، أو المتغير السببي في الحالتين؟

لن يهتم هذا المقال بقراءة المشهد داخل الجامعات الأميركية، بل ما يهتم به هو الخلفيات الثقافية والسياسية التي أنتجت هذه الظاهرة. ليست المدرسة ولا الجامعة مجرد تلقين معرفي جامد للمعلومات، بقدر ما هي تجارب حياتية معرفية وقيمية، ومن هنا ذهبت عالمة الاجتماع الأميركية مارثا نوسباوم في كتابها الشهير «ليس للربح: لماذا تحتاج الديمقراطيات إلى الإنسانيات؟» إلى أن العلوم الإنسانية (الأدب والفلسفة والتاريخ.. إلخ) تقدم مساهمة كبيرة في نوعية المواطنة السياسية، إذ تنمي ثلاث قدرات حاسمة للمواطنة الجيدة:

الأول، التمحيص الذاتي السقراطي، فالدورات في التفكير النقدي والفلسفة تعلم المهارة الحاسمة للمفاوضة والتحليل التأملي.

الثاني، تعلم الإنسانيات حسا من المواطنة العالمية، حيث ينقل التاريخ حسا من التعقيد في كل أمة، بل أبعد من ذلك، حسا بالعالم أكمله.

الثالث، تغذي وتطور الإنسانيات الخيال السردي، الحس بما هو الشعور.

وتضرب نوسباوم أمثلة على التأثيرات السلبية لضعف العلوم الإنسانية في التعليم، مستشهدة بدراسة خرجت من المجلس البريطاني عام 1995 ذكرت أن أغلب المتطرفين القادمين من الشرق الأوسط هم خريجو طب أو هندسة، وبأن تدريسا كهذا يفشل في دمج التفكير النقدي كما تفعل الإنسانيات، وهذا يؤدي إلى الخضوع والامتثال مما يجعلهم يكتسبون ذهنية يمكن التلاعب والتحكم بها بسهولة.

إن فضاء الديمقراطية ـ الليبرالية وفضاء المواطنة مع مستوى التعليم العالي ومؤسسات عقلانية متطورة، أدت كلها إلى نشوء جيل من الشباب لديه منظومة معرفية ـ قيمية متشابكة.

في عام 1990، أكد تقرير التنمية البشرية التابع للأمم المتحدة أن التنمية البشرية لا تقتصر على مجالات الصحة والتعليم وغيرها من الخدمات الحياتية، بل تشمل مجموعة من الإمكانات والقدرات، منها الحريات السياسية وحقوق الإنسان.

copy short url   نسخ
05/05/2024
5