+ A
A -
د. محمود الحنفي أستاذ القانون الدولي وحقوق الإنسان

تناقلت وسائل إعلام متعددة خبر إمكانية قيام المحكمة الجنائية الدولية، بإصدار مذكرات اعتقال بحق قادة إسرائيليين، على رأسهم رئيس الوزراء الحالي بنيامين نتانياهو، ووزير الدفاع يوآف غالانت، وقائد الجيش هاليفي، وذلك على خلفية حرب الإبادة التي تشنّها إسرائيل ضد سكان قطاع غزة منذ السابع من أكتوبر/‏تشرين الأول من العام الماضي. ومن المتوقع أن تصدر هذه المذكرات خلال الأيام القليلة المقبلة. ولعل المذكرات – فيما لو صدرت – سوف تكون الخبر الأهم على الإطلاق، منذ قيام دولة إسرائيل التي توصف بأنها دولة محمية من المساءلة، وأن قادتها يتمتّعون بالمناعة ضد أية ملاحقة. وقد تعرّضت المحكمة الجنائية الدولية بشكل عام – وكذلك مدّعيها العام على وجه الخصوص – لانتقادات حادّة؛ لعدم فتح تحقيق فعّال ذي جدوى، وكذلك لعدم إصدار مذكرات اعتقال بحق قادة متهمين بارتكاب جرائم حرب، وجرائم ضد الإنسانية، وجرائم إبادة، رغم توفر معطيات ودلائل ذات مصداقية.

إن الشكوك التي تحيط بالمحكمة الجنائية الدولية كثيرة، وإن القضايا التي تناولتها (تركّزها الجغرافي في أفريقيا أو دول العالم الثالث، واستثناء قادة دول غربيين) تعزز هذه الشكوك. وإن المحكمة مطالبة اليوم بأن تثبت للرأي العام العالمي أنها هيئة قضائية محترمة جادة ومهنية.

كما أن الموضوعية والمهنية والشفافية – التي يجب أن تتمتع بها المحكمة والتي تؤدي لكسب ثقة العالم وهو ما يعزّز من مصداقيتها ويقوّي من موقفها كهيئة قضائية دولية؛ بأنه لا أحد فوق القانون بغض النظر عن جنسيته أو مسؤوليته السياسية – لم توجد بعد.

عقد نتانياهو لقاءات خاصة مع وزراء ومستشارين لبحث السيناريوهات المتوقعة، كما أوعزت الخارجية الإسرائيلية لسفرائها في العالم بالاستنفار؛ للدفاع عن سلوك حكومتها وجيشها، كما طلبت بشكل مباشر من حكومات الولايات المتحدة، وفرنسا، وبريطانيا، وألمانيا، ممارسة ضغوط؛ لعدم صدور مذكرات اعتقال بحق قادة إسرائيليين.

ومع أن إسرائيل لا تلقي بالًا للقانون الدولي، ولا تحترم القرارات الدولية الصادرة عن الجمعية العامة، ومجلس الأمن، ومحكمة العدل الدولية المتعلقة بالحرب على غزة، فإن ثمة قلقًا إسرائيليًا، لدرجة الفزع، نابعًا من عدة أمور:

أولها: أن إسرائيل سوف تكون في قفص الاتهام مرة ثانية، بعد سوقها لمحكمة العدل الدولية، واتهامها بارتكاب جريمة إبادة، وسوف تكون في حالة دفاع، وهي ملزمة بتجهيز جيش من المحامين للرد على الأوامر التي سوف تصدر عن المحكمة الجنائية الدولية.

ثانيها: سوف تصبح إسرائيل سجنًا لقادتها الذين سوف تصدر بحقهم مذكرات اعتقال، لن يستطيعوا السفر إلى أية دولة في العالم إلا التي ترضى بأن تستقبل مجرمي حرب وبشكل غير معلن.

ثالثها: ستكون هناك آثار ستؤثر مباشرة على اقتصاد إسرائيل، لا سيما في مجال الطيران والسياحة ومجالات الاستثمار في التكنولوجيا العالية، وتجارة الأسلحة.

إن حالة الغضب العالمي – لا سيما الحراك في الجامعات الأميركية، ثم انتقاله لجامعات في أوروبا – أمرٌ لا يمكن تجاوزه بسهولة، ولا بد أن يُحدث أثرًا لدى صانع القرار الغربي الذي يشعر أن سلوك إسرائيل بات يشكل عبئًا حقيقيًا على السياسة العالمية، وبنفس القدر على الأوضاع الداخلية، لا سيما الانتخابات. هذا الغضب يمكن أن يوفر بيئة ضاغطة إضافية على المحكمة الجنائية الدولية؛ كي تصدر مذكرات اعتقال؛ انطلاقًا من مسؤولياتها القانونية، وحفظًا لماء الوجه بعد الانتظار وقتًا طويلًا. وفي هذا الإطار، فإن المحكمة بحاجة لفلسطين، كما أن فلسطين بحاجة للمحكمة.

إن مشاهد الاحتجاجات العارمة في العالم ضد جرائم الإبادة في قطاع غزة، تشبه إلى حد بعيد تلك الاحتجاجات التي ساهمت في وقت سابق بإسقاط نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا، وهي تعد بمثابة مؤشرات قوية لبداية فرض عزلة دولية على إسرائيل.

إن الحديث عن إصدار مذكرات اعتقال لقادة وضباط إسرائيليين متّهمين بارتكاب جرائم دولية، يدفع هؤلاء، وبتوجيه من حكومتهم، للاستعانة بمحامين، للترافع عنهم أمام القضاء الدولي من جهة، وتمثيلهم أمام لجان تحقيق داخلية من جهة أخرى.

من المتوقع أن تصدر مذكرات اعتقال بحق طرفي الصراع: حماس وإسرائيل. هذا الافتراض مبنيّ على سياق اعتادت عليه المؤسسات الدولية (التوازن)، فلم يصدر أي تقرير دولي إلا وأدان المقاومة الفلسطينية بنفس القدر الذي أدان به إسرائيل وربما أكثر.

ومن المرجح أن يكون إدراج قادة المقاومة (إن تم) من باب ادعاء التوازن والحيادية؛ ولكن من الناحية العملية فإن الأهمية سوف تكون صفرية قياسًا على قرارات تجميد حسابات مالية لبعض قادة المقاومة في السابق (أبوعبيدة على سبيل المثال)، وبخلاف ذلك فإن مذكرات الاعتقال بحق قادة إسرائيليين سوف تكون ذات تأثير كبير، وسوف تضيّق عليهم حركاتهم وعلاقاتهم بشكل مباشر، وكذلك على مستقبلهم السياسي حاليًا، والشخصي بعد التقاعد، حيث يسعى الكثير من الضباط والقادة السياسيين لبناء حياة تجارية جديدة في أوروبا.

تخيلوا أن يُحاصر نتانياهو وقادة الإجرام ولا يستطيعون السفر، ويُنظر لهم كمجرمي حرب، وللاحتلال كمن خرج عن الشرعة الدولية التي رعته وأنشأته!

copy short url   نسخ
03/05/2024
10